بقلم: عبدالله العبادي
أكيد لكل مجتمع نوع خاص من الأحزاب وكذا الفائدة من كثرتها أو قلتها، لارتباطها الوطيد بالخصوصيات الوطنية والمحلية. ارتباط وثيق أيضا بالبنية الاجتماعية والسياسية للبلد المنشأ، القوة النقابية ومؤسسات المجتمع المدني أو ضعفها، قرب أو بعد الأحزاب من العامة وخصوصا من الطبقات الهشة والفقيرة. كما أن الثقافة السياسية السائدة والأفكار الدينية المهيمنة، حتى ولو كانت موروثات لا أساس ديني لها، كلها معطيات تعطينا فكرة عامة عن مجتمع ما، عن بنياته ومكوناته وعن تاريخه السياسي ومدى نضجه ووعيه بمستقبله وقدرته على صنع التغيرات اللازمة.
كما يمكننا تصنيف العديد من الدول والمجتمعات حسب درجة تطور الفكر الحزبي بها، ومدى نضجه الوطني والدولي. فكل شعب ينال الحكومة التي يستحقها كما قال ونستون ترتشل، الشعب الواعي يختار أفضل ممثلين له، والشعب الجاهل يختار أولئك الذين يجيدون تسيير حملاتهم الانتخابية بطرقهم الملتوية جريا وراء المصالح الضيقة بعيدا عن مصالح المواطن والوطن.
هناك قواسم مشتركة عديدة بين معظم الأحزاب العربية، فهي لم تنضج بما فيه الكفاية لتعمل على تحقيق الديمقراطية الاجتماعية المنشودة داخل المجتمع، فهي تعاني نفسها من إشكالية الديمقراطية الداخلية وتغلب عليها حروب الكراسي والمصالح الفردية والزعامات الكرتونية. هي نفسها من أوصلت العديد من الحكومات والشعوب لحد الإفلاس والخراب، إلا في حالات نادرة كان للدولة العميقة دور كبير في تجنب الانهيار.
فالاشتراكية الاجتماعية تتغذى من التاريخ النضالي الطويل ومرجعية اليسار، ومن إشكاليات الواقع المعاش كهدف من اجل إنجاز المشاريع الديمقراطية الكبرى لتحقيق المجتمع المأمول. وتهدف الاشتراكية الاجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء ديمقراطية تمثيلية محلية وحقيقية، والتحكم في الرأسمالية المتوحشة وتغليب الطابع الإنساني عليها، باستعمال كل الإمكانيات المتاحة والمتوفرة سياسيا وأيضا الأخذ بعين الاعتبار السلطة المضادة والناقدة من نقابات ومنظمات المجتمع المدني.
ومن شروط نجاحاتها محليا، توفر أرضية خصبة وحاضنة لفكر التغيير نحو الأفضل، وانتشار ثقافة الحوار والاعتدال والنقد البناء، من أجل بناء سلطة سياسية قوية وحقيقية، وقضاء مستقل وقانون يسري على الجميع، وتحقيق العدل والمساواة والعيش الكريم لجميع فئات المجتمع، والعمل على تقليص الهوة الكبيرة بين الطبقات.
فالاشتراكية الاجتماعية اليوم، هي بديل الاشتراكيات المتهالكة التي نادت بالتأميم والتخطيط والتحكم في كل شيء، فعوضتها باقتصاد بيئي تنموي واقتصاد مختلط وديمقراطية اجتماعية، إنها البديل التاريخي لأزمة الاشتراكية واليسار المعاصر، والحل الأمثل للمجتمعات من اجل تحقيق ديمقراطية حقيقية حتى ولو في وسط رأسمالي لكن متحكم فيه.
فهي تتبنى نظام الاقتصاد المختلط واقتصاد السوق الاجتماعي الذي لا ينال من جيوب المهمشين لصالح الشركات الكبرى، إنها الطريق الواضح الذي يدفع الدولة نحو تحقيق المجتمع العادل بتنظيم الاقتصاد بما يخدم المصلحة العامة. إنه النموذج الأمثل للقضاء على وحشية وديكتاتورية الرأسمالية المعاصرة، وتحقيق قدر كاف من الديمقراطية من أجل مجتمع سوي.
وبما أن جل أحزابنا الحالية وبكل أطيافها وتلوناتها لا تجيد قراءة النقد الذاتي فهي تدور في حلقة مفرغة، وخصوصا أحزاب ما يحسب على اليسار، فهي لم تستفد من النكسات المتتالية ولم تحض بأي وقفة مع الذات من أجل فهم الأسباب والمسببات، الشيء الذي دفع بالكثيرين من مغادرة قلعة اليسار. إنها أحزاب بحاجة إلى إعادة التأثيث، من أجل التشبيب وضخ دماء جديدة، لطرح مشاريع سياسية ومجتمعية قادرة على تعبئة القدرات الوطنية والطاقات الواعدة للانخراط في الفكر الإصلاحي والذي يجب أن يبدأ أولا من داخل الأحزاب المتآكلة، لأن التغيير على يأتي مع المطر، بل بحاجة لكاريزمات ورجال المرحلة.