السالكون

1
يقول الراوي:”لا أعرف بالضبط متى بدأت علاقتي بإبراهيم، لكن المؤكد أنها لم تبدأ من المصافحة الأولى ولا من حديث العابرين في ممرات الحي الجامعي في بوردو، بل من لحظة صمتٍ تقاطعت فيها نظراتنا، وكان كلٌّ منّا يحمل في روحه تلك الشحنة العاطفية التي يعجز عن إبصارها الأغيار.

كان إبراهيم قادمًا من أذربيجان، وكنت آتيًا من المغرب، وكنا في فرنسا نغترب في بلد يُفترض أنه يمنحنا المستقبل، بينما هو في كل حين يعيد سؤالنا عن جذورنا، وهل نحن مصمِّمون على البقاء هنا بعد الحصول على الدبلوم.
وكان إبراهيم يتحدث بلغة مشوشة، أي بفرنسية مطبوعة بلكنة الجنوب الغربي لبلاد الأنوار، مع بعض الكلمات من الإنجليزية والروسية، وكان صوته عذبًا طفوليًا مشحونًا بأسرار لا يعرفها ولا يخبرها إلا خالقها.
قال لي إبراهيم ذات يوم، دون أي مقدمات: “الله يحبني، وأنا أحبه. ولكني لا أصلي، لا أصوم. لست كافرًا… أنا مسلمٌ عاصٍ، ونموذج سيّء، لا يُقتدى به.”رميت إبراهيم بنظرة طويلة مشبعة بالحنان، ولم أفكر قط في التعليق على كلامه، لأن ليس هذا ما كان ينتظر… وكان “أمير الظلام” كما كان يحلو لي مناداته مازحًا وأنا أدندن بأغاني سامي يوسف على أنغام وتوقيعات عوده…كان يختبر صداقتي له بالكلام المستفز الذي لا ينم عن الشر… إطلاقًا… وإنما عن رغبته الطيبة في مد جسور الود بيني وبينه… فعلاً… لقد كان إبراهيم يرمي الجمرات بين يدي ليراقب ردة فعلي: هل أحترق بها وأعزف عن صداقته؟ أو أكتوي بها صابرًا، متحمّلًا ضريبة الصداقة وما ينجرّ عنها؟وكان إبراهيم فتى متعدد المواهب، ذا ذائقة فنية عالية، وإحساس رهيف تعجز الكلمات عن وصفه.
كان يحب مايكل جاكسون، كما يعشق فرانك سيناترا، ومونيكا بيلوتشي، ويستشهد بنيتشه وسارتر، وكأنه تربّى على كتبهم.
وكان يقول لي بصوت مخنوق: “هو خالقنا، لكنه لا يحتاج عبادتنا، فلماذا يعذبنا إن عصيناه؟”وفي كل مرة يتناول معي هذا الموضوع، لم أكن أشعر أنه يشكّ في أساسيات الدين، بل كان يُخيَّل إليّ أنه يحاول أن يصنع إيمانًا جديدًا خاصًّا، لا يخجل منه ويلبسه على مقاسه…
2
كنا نعيش في قلب مدينة تتنفس ببطء. كانت بوردو باردة في العمق، وكانت تمشي على إيقاع غربي علماني غريب عن ثقافتنا الشرقية.وذات مساء، في حديقة الحي الجامعي، جلسنا نحن الثلاثة: أنا، إبراهيم، ووائل، المسيحي الماروني الذي لم يملّ من تكرار أن الدين شأن خاص، وأن الله لا يمكن أن يكون طائفيًّا…
وأضاف وائل: “لقد قرأت القرآن ثلاث مرات، وأحسبني قد اطّلعت على الإسلام أكثر من أغلب المسلمين بالوراثة… وها أنذا أقول لكم: ما الأديان إلا طرق متعددة إلى حضرة الواحد الأحد، وكلنا سالكون.
لكن… (وهنا توقّف وبدأ يفكر) هناك شيء يزعجني، ويحيرني، ويدفعني لأن أسأل بلا توقف: كيف يُعقل أن الله، الذي أحبنا قبل أن يخلقنا، سيحرق منّا الكفار في نار جهنم؟ وكيف تكون النار بالنسبة للعصاة ختام حياة منحها لهم بجوده وكرمه؟”وكان إبراهيم يُصغي طويلًا لهذا السجال الروحي دون أن يتفوه بكلمة واحدة… ولكن، بعد عشر دقائق، تدخل قائلًا: “فريد، أنت الوحيد الذي يتحدث عن الله وكأنك تحبه حقًّا.
كلامك لا يشبه خطب الجمعة التقليدية، ولا عذاب القبر. إذا كنت تعرف الطريق، فتضرّع إلى الله أن يهديني إليه.”فاجأني بكلامه… وقلت له: “الرحمة، يا إبراهيم، هي اليقين الوحيد، وكل ما عداها تخمين…”
3
ومرّت الأعوام، وانتهى مقامنا في فرنسا، وتفرّقت بنا السبل، وهاجر كلٌّ منّا إلى بلد آخر خارج نطاق القارة العجوز… وبطبيعة الحال، لم أعد ألتقي إبراهيم، ولا أعرف ماذا حل بوائل.
لكن مساءات بوردو، وأحاديث الدين، ونقاشات النار والجنّة والثواب والعقاب، كل هذا لا يزال يدور في رأسي وأنا أخطّ بيميني هذه السطور… وكأن الزمن لم يتحرك.
وتذكّرت يوم بكى إبراهيم بصمت، ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول “البقاء بالله والفناء فيه”… وفي البدء دمعت عيناه، ثم انفجر كطفل رأى أباه يُقتل أمام عينيه.
وكان يقول لي وهو يمسح دموعه: “أنت مختلف عن جميع أصدقائي الملتزمين بالدين. أنت تردد أن الإسلام دين الرحمة والحب دون أن تلبس عباءة الواعظ الزاجر.”وعندما عاد إليه هدوؤه بعد نوبة البكاء، قال لي مازحًا، مداعبًا هذه المرة: “هل تظن، يا فريد، أن الله سيحاسبني عن الأغاني التي أحببتها يوم الحساب؟ أو عن نيتي العميقة حين عصيته تعالى، ربما في لحظة ضعف وعن غير قصد؟”ونظرت إلى إبراهيم طويلًا، ولم أنبس ببنت شفة.
ربما كان لبّ سؤاله بعيدًا عن الفقه وعن منطق الحلال والحرام… بل ربما كان يروم في أعماق فؤاده نجاة لا تشبه أيّ ضرب من ضروب الخلاص التقليدي…لكن، رغم كل شيء، كنت أريده أن يفهم أن الله لا يشبه كتب الفقهاء، وأن السعادة لا تسكن في الحلال والحرام فقط، بل في أن تعرف لماذا تؤمن، لا أن تتظاهر بالإيمان.
واليوم، بعد التجوال والترحال الطويل في دنيا الله، لم أعد أبحث عن أي جواب للأسئلة المقلقة التي كان يطرحها إبراهيم، بقدر ما أقتفي أثر ذلك الشعور الدفين الذي جعل إبراهيم يشك ويفكر ويبحث صادقًا عن نور الله في ثنايا السؤال تلو السؤال.
ربما لم يكن يريد إبراهيم الهداية بالمعنى المتعارف عليه، بل فقط أن يسكن في واحة من الطمأنينة، تشبه تلك التي وجدها وائل في صحراء الحيرة والتيه، حين قال لي يومًا، والصدق يسيل من كلامه:”فريد… سأقرأ الفاتحة على أبواب الجنة، سواء كان الإسلام أو أي ملّة أخرى هي الدين الحق… أنا أحب الفاتحة لأنها تذكرني بـ(أبانا الذي في السماوات).”