
تمكن فريق بحث أثري بقيادة عالم الآثار المغربي يوسف بوكبوط، الأستاذ بالمعهد المغربي لعلوم الآثار والتراث، من اكتشاف قرية ما قبل تاريخية من العصر البرونزي في منطقة كاش كوش ظهر المودن قرب وادي لاو، شمال مدينة تطوان. ويعد هذا الاكتشاف الأول من نوعه في المغرب الكبير قبل وصول الفينيقيين،مما يعيد النظر في تاريخ شمال إفريقيا ويسلط الضوء على تطور المجتمعات الأمازيغية القديمة. نشرت نتائج هذا الاكتشاف في المجلة العلمية العالمية “Antiquity”،حيث من المتوقع أن تحدث هذه النتائج ثورة في فهم تاريخ المنطقة.
تغيير النظرة السائدة عن المجتمعات الأمازيغية
على عكس الفكرة التقليدية بأن المجتمعات الأمازيغية القديمة كانت محدودة التطور قبل وصول الفينيقيين،أظهر هذا الاكتشاف أن هذه المجتمعات كانت نشيطة أقتصاديا وثقافيا .فقد مارست الزراعة وتربية الماشية وأقامت علاقات تجارية وثقافية مع مجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط والصحراء الكبرى.
يبرز هذا الاكتشاف مدى انفتاح سكان شمال إفريقيا القدامى على محيطهم الإقليمي والقاري،ومساهمتهم في بناء الحضارة وانتشارها خلال فترة استعمال معدني النحاس والبرونز (4400 – 2900 سنة مضت).كما يمكن هذا الاكتشاف من إعادة كتابة التاريخ المغاربي من وجهة نظر محلية،بعيدا عن التأريخ الأجنبي الذي همش دور هذه المجتمعات.
موقع كاش كوش ظهر المودن: مركز استراتيجي للتبادل الثقافي
تقع قرية كاش كوش على نتوء صخري في موقع استراتيجي بالقرب من مضيق جبل طارق،مما منح سكانها القدرة على السيطرة على ممر بين البحر الأبيض المتوسط وجبال الريف. ساعد هذا الموقع في تسهيل التبادل التجاري والثقافي مع مناطق البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة الأيبيرية.
ثلاث مراحل من الاستيطان البشري
كشفت الحفريات الأثرية عن ثلاث مراحل من الاستيطان البشري في الموقع:
-المرحلة الأولى (2200-2000 قبل الميلاد):
تعود هذه الفترة إلى المرحلة الانتقالية بين العصر النحاسي والعصر البرونزي،حيث وجدت بقايا قليلة تدل على استيطان محدود.شملت المكتشفات شظايا فخارية وأحجار صوان وعظام ماشية.
-المرحلة الثانية (1300-900 قبل الميلاد):
في هذه الفترة،تطورت القرية إلى مجتمع زراعي مستقر. بنيت منازل من الطوب اللبن،واستخدمت حفر محفورة في الصخر لتخزين المنتجات الزراعية. اعتمد الاقتصاد على الزراعة (القمح والشعير والبقوليات) وتربية الماشية (الخنازير والأبقار). أظهرت المكتشفات وجود روابط تجارية مع شبه الجزيرة الأيبيرية ومناطق البحر الأبيض المتوسط،بما في ذلك قطعة معدنية برونزية.
-المرحلة الثالثة (القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد):
تتزامن هذه الفترة مع وصول الفينيقيين إلى المنطقة وتأسيس مدينة ليكسوس،وتعرف تاريخيا بـ”الموريتانية الأولى”.كشفت التحاليل الأثرية عن ظهور محاصيل جديدة مثل الكروم وأشجار الزيتون، ما يعكس التأثير المتوسطي.كانت تربية الماشية متنوعة، وشملت الأغنام والماعز والخنازير والأبقار.كما وجدت أدلة على صناعة الجلود والحرف اليدوية،مما يعكس مجتمعا منظما ومكتفيا ذاتيا.
دلالات حضارية عميقة
يغير هذا الاكتشاف فهمنا للتاريخ الحضاري لشمال إفريقيا،حيث يكشف عن تطور المجتمعات الأمازيغية القديمة قبل التأثيرات الفينيقية والرومانية.ويبرز مدى انفتاح هذه المجتمعات على التبادل الثقافي والتجاري مع محيطها،مما يعكس حضارة متقدمة ذات نظام اجتماعي واقتصادي متكامل.
إعادة كتابة التاريخ المغاربي
يتيح هذا الاكتشاف فرصة لإعادة كتابة التاريخ المغاربي من منظور محلي،بعيدا عن الروايات التقليدية التي ركزت على تأثير الحضارات الخارجية فقط.إنه يظهر أن سكان شمال إفريقيا كانوا فاعلين في بناء حضارتهم ومؤثرين في محيطهم الإقليمي.
بهذا الاكتشاف الأثري الرائد، يعاد النظر في تاريخ المنطقة،وتفتح آفاق جديدة لفهم الحضارات الأمازيغية القديمة ومساهمتها في الإرث الثقافي لشمال إفريقيا.