أخبارثقافة و فن

قصيدة “النحلة شامة” بين رؤية الحسن الثاني ورسالة الملحون.. عندما تكشف الفنون دسائس السياسة

يعتبر الفن مرآة المجتمع، حيث يلتقط تفاصيله ويعكس نبضه، وأحيانًا يكون وسيلة لإيصال رسائل سياسية واجتماعية بطرق غير مباشرة. ومن بين الأعمال الفنية التي تحمل دلالات عميقة تأتي قصيدة “النحلة شامة”، التي لفتت انتباه الملك الراحل الحسن الثاني لما تحمله من معانٍ سياسية واجتماعية تكشف علاقة السلطان برعيته ودور البطانة في إيصال الأخبار الصادقة أو تشويهها.

● ما المقصود من نصيحة الحسن الثاني؟

كان الملك الراحل شديد الاهتمام بالفن والموروث الثقافي، حيث كان يدرك جيدًا أبعاده ودلالاته العميقة. عندما قال للفنانين: “ما ياكلوش الثومة بفمكم”، كان يقصد بذلك التحذير من أن يكونوا أداة في يد من يسعى لاستغلال الفن لخدمة أجندات سياسية أو للتلاعب بالرأي العام. فهذه المقولة تعبر عن سلوك من يسعى لجني الفوائد دون تحمل العواقب، وهو ما ينطبق على من يدفع الفنانين إلى توجيه رسائل معينة دون أن يكونوا واعين لتبعاتها.

وقد عُرف الحسن الثاني باهتمامه العميق بالموسيقى والفن، بل إنه كان يتابع تفاصيلها بدقة. وقد ظهر ذلك عندما دعا مجموعة من الفنانين إلى القصر الملكي حيث قدم لهم شروحات موسيقية متعمقة حول الفروقات بين الآلات الموسيقية مثل “السنيترة” و”البانجو”، كما تحدث عن الربع الموسيقي باحترافية تبرز إلمامه بالموسيقى الأصيلة.

● أول لقاء مع الملك والاهتمام بالأغنية المغربية

أول لقاء جمع بين الفنانين والحسن الثاني يعود إلى سنة 1969، حيث حضروا إلى القصر لتقديم عرض مسرحي، وكان ضمنهم الفنان الكوميدي الراحل بلقاس، الذي كانت له علاقة مميزة بالملك. خلال هذا اللقاء، تم اقتراح أداء أغنية “قطتي”، التي لم يكن الفنانون يعلمون أنها من كلمات الشاعر المصري أحمد شوقي، إلا أن الملك أخبرهم بذلك، مشيرًا إلى أنها كانت ضمن المقرر المدرسي.

● قصة “النحلة شامة” وكيف اكتشفها الملك

في لقاء فني آخر، طلب الحسن الثاني من الفنانين أداء “قصيدة النحلة”، إلا أنهم لم يكونوا على دراية كاملة بها، على عكس أعضاء فرقة جيل جيلالة، الذين كانوا متخصصين في فن الملحون. لاحظ الملك صمت الحاضرين، فبدأ في شرح القصة بنفسه، موضحًا أن “النحلة شامة” تمثل رمزية قوية، حيث كانت تدخل إلى السلطان متسللة لتكشف له أن وزراءه لا ينقلون له حقيقة أوضاع الشعب، بل يقدمون له صورة مشوهة مليئة بالكذب والتضليل.

بعد مرور فترة من الزمن، قامت فرقة جيل جيلالة بأداء الأغنية أمام الملك وتسجيلها لاحقًا، لكن القصة لم تنتهِ هنا، حيث عاد رشيد باطما، أحد أبرز أعضاء ناس الغيوان، للبحث عن أصل القصيدة. وبعد بحث دقيق، عثر عليها في كتاب للمؤرخ محمد الفاسي، ليكتشف أن كاتبها هو الشاعر التهامي المدغري، وهو من شعراء الملحون الذين كانت قصائدهم تحمل مضامين سياسية واجتماعية قوية. كما تبين أن القصيدة تمت ترجمتها إلى الفرنسية سنة 1930 خلال فترة الحماية.

● مغزى القصيدة ورسالتها السياسية

تحمل “النحلة شامة” رسالة واضحة عن دور السلطان في الحكم وعلاقته بالرعية، حيث تبرز دور البطانة في نقل الأخبار، وكيف أن بعض المسؤولين قد يخونون الأمانة، مما يبعد الحاكم عن معرفة الحقيقة. وهذا ما عبر عنه الشاعر التهامي المدغري في مقاطع قصيدته، التي جاء فيها:

“السلطان طبيب والراعي مضرور والوزير ما يبلغ الأخبار
ويجيب الشربة لمن انضر ويلا خان الوزير بعدت المزارة”

ويعني ذلك أن السلطان قادر على معالجة مشاكل الشعب، لكن المشكلة تكمن في الوزراء الذين لا ينقلون له الصورة الحقيقية، وعندما يخون الوزير الأمانة، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا.

● أثر “النحلة شامة” على مسار الفن الغيواني

تعد “النحلة شامة” نقطة تحول في مسار ناس الغيوان، حيث فتحت لهم بابًا جديدًا للإبداع بعيدًا عن اجترار الأغاني التقليدية، مما سمح لهم ببناء هوية موسيقية أكثر تجدّدًا. فقد كانت القصيدة بمثابة انطلاقة نحو مرحلة فنية أكثر نضجًا، تميزت بالبحث في التراث وإعادة إحيائه بأسلوب يتماشى مع روح العصر.

● الفن الغيواني بين الأصالة والتحديث

مع مرور السنوات، بدأ الفنانون الشباب في إعادة أداء أعمال ناس الغيوان وجيل جيلالة بأسلوب جديد يدمج بين الأصالة والحداثة. ورغم استخدام آلات موسيقية غربية في بعض الأعمال، إلا أن الجوهر الغيواني ظل حاضرًا، ما يعكس اهتمام الجيل الجديد بالموروث الموسيقي المغربي. ولم يقتصر هذا الاهتمام على ناس الغيوان فقط، بل شمل روّادًا آخرين مثل عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط، محمد الحياني، نعيمة سميح وغيرهم من الأسماء التي بصمت الأغنية المغربية.

يبقى الفن، سواء في الماضي أو الحاضر، وسيلة قوية للتعبير عن الواقع، وقدرته على نقل الرسائل السياسية والاجتماعية تجعله جزءًا لا يتجزأ من هوية الشعوب. وقصيدة “النحلة شامة” ليست مجرد عمل غنائي، بل هي وثيقة شعرية تعكس رؤية شاعر الملحون لعلاقة السلطان برعيته، وتحمل رسالة خالدة حول العدل والحق وضرورة إيصال الحقيقة إلى من بيده القرار.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button