“مول الزريعة”والمراقب التربوي

بقلم/ المصطفى السهلي
استوقفني الأستاذ س. عندما التقيته ذات يوم ، في أحد دروب المدينة… حدستُ أن الأمر فيه شيء غير عادي… كانت علامات الغضب بادية عليه ، وأنا أعرفه منذ أن كان تلميذا من تلاميذي في المرحلة الثانوية ( التأهيلية الآن )… كان مثالا للهدوء وبرودة الأعصاب ، كأنَّ في عروقه دما إنجليزيا… عرفته في هذه المرحلة ، حيث عاشرته فيها لمدة سنتين ، ثم غاب عني مدة من الزمن ، عاد بعدها أستاذا للغة العربية في إحدى المؤسسات التعليمية بتارودانت ، فتوطدت به علاقتي أكثر… وكان ذلك كافيا لأعرف أخلاقه ، وأتبيّن طباعه… لقد كان من النوع الذي لا يثور إلا إذا انتُهِكت حُرمة من الحرمات أمامه ، أو شعر بظلم يلحقه ، أو استفزّه مشهد يثير الاستياء والتذمر… بدت عليه أمارات التوتر والارتباك ، فحيّرني أمره… توقعت كل شيء ، إلا أن يكون للمسألة ارتباط بزيارة التفتيش الأخيرة… فالأستاذ س. ليس من النوع الذي يجادل في شأن من الشؤون المتعلقة به ، خاصة ونحن ، هنا ، على قارعة الطريق ، وفي الشارع العام… وليس من عادته أن يستوقفني ، إلا لأمر هام…
بعد السؤال عن الحال والأحوال ، والاطمئنان على الصحة والعيال ، استجمعت كل أفكاري ، واستنفرت كل حواسي ، كالمتربِّص أن يُصفَع ، استعدادا لتلقي المسألة المرتقبة… وحتى أيَسِّر له الدخول في الموضوع ، وأختصر عليه مسافة القول ، وأوفر عليه الوقت والجهد ، قلت مبتسما : “خيرا إن شاء الله؟”… ازدادت ملامحه عبوسا ، وعلت محياه حمرة هي مزيج من الخجل والحنق… بلع ريقه ، ثم فتح فمه أخيرا ، فتراءت لي الكلمات تتزاحم على طرف لسانه ، وتتسابق لتخرج دفعة واحدة… قال في شبه تلعثم : “وصلتني… رسالة من مدينة الخميسات…” كدت أنفجر ضحكا ، وأعتبر المسألة مجرد دعابة ، أو نكتة تُلقى في مكان وزمان غير مناسبين… لكن وجهه الصارم لم يترك لي مجالا لذلك… ولم يكن من عادتنا التراشق بالنكت ، ولا تبادل المقالب ، أو استساغة الهزل والمزاح بيننا… كان الاحترام متبادلا بيننا ، ولا يزال… قلت في نفسي : “ما شأني ومدينة الخميسات ، وأنا لم أزرها إلا مرة واحدة ، أيام كنت طالبا بالرباط؟ وما دخلي ، أنا ، برسالة قادمة من هناك؟”…
تصورت سيناريوهات كثيرة ، وتوقعت كل شيء… أثارني الأمر ، وانتقلت إليّ عدوى الغضب والارتباك من محدثي… لزم الصمتَ من جديد ، وعرفت أنه يفكر في المدخل المناسب ، لتوضيح الأمر… لا شك أنه انتبه إلى ما أصابني من توتر ، فحاول طمأنتي بابتسامة خافتة ، سرعان ما تلاشت على شفتيه ، وهو يقول : “هذه الرسالة بعثها إليّ شخص لا أعرفه…” زاد الطينَ بلةً بقوله هذا… فذهبَتْ بيَ الأفكار شذَر مدَر ، وخشيت أن يكون في الأمر خطر… نظرت إليه أستعجله التكملة… وكدت أرشقه بالعبارة المصرية المشهورة “هاتِ من الآخِر…” لولا أنه واصل حديثه : “هو رجل تعليم ، يعمل في مدينة الخميسات…” وتنفست الصعداء ، وقلت في نفسي : ” الحمد لله ، رجل تعليم يراسل رجل تعليم آخر… الأمر طبيعي إذن ، { فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون }…” استشعرت بعض الاطمئنان ، وترجّلت عن دراجتي ، واقتربت أكثر من محدثي ، كمن وقع في فخ التشويق ، فأصبح كله آذانا مُصْغِية… سألته لأرفع الالتباس عن نفسي ، وأستوضح الأمر جليّا :”وهل لي علاقة بتلك الرسالة؟” فكان جوابه لغزا آخر ، ينضاف إلى لغز الرسالة نفسها… قال :”نعم ، لقد بعث إليّ نسخة من تقرير تفتيشي الأخير …” لم أتمالك نفسي من الضحك… لو قالها شخص آخر غير الأستاذ س. لقلت إنه يتخذني هزؤا … لكن الأمر جدّ ، ولا هزل فيه… تساءلت مستغربا :”ومن أين له بتلك النسخة؟” .
قال : “ذلك ما حيّرني فعلا… ماذا تفعل نسخة من تقرير التفتيش الخاص بي في مدينة الخميسات؟…” قلت مستغربا : “وكيف حصل عليها؟ هل سُلِّمت له خطأ في مؤسسته؟” قال : “لو حدث ذلك ، لقلنا وقع خطأ في عنوان الإرسال ، وتفهّمنا الأمر…” تساءلت في حيرة : “ألم يخبرك في الرسالة ، عن مصدر النسخة؟”… أجاب والحسرة تملأ نبرة صوته : ” بلى ، بائع الفواكه الجافة ( “مول الزريعة” ) القريب من حيه هو الذي لفَّ له فيها بعض مشترياته… فاستعان بالمعطيات الموجودة في التقرير من اسم شخصي ، واسم المؤسسة ، والمدينة ، فأخذته الغيرة على المهنة ورجالها ، وبعثها إليّ عبر البريد…” دُهِشت لِما سمعت ، وتملّكني الغضب الشديد ، واستغربت أن تصل الأمور ، في بلدنا ، إلى هذا الحد من الاستهتار بوثيقة رسمية ، يُفترَض فيها السرية التامة ؛ لِما تشتمل عليه من معلومات شخصية ، ومعطيات مهنية ، ترتبط بعمل الأستاذ ، ومساره الإداري والتربوي…
كيف يُعقَل أن تُترَك هذه الوثيقة في متناول العموم ، وبين أيدي من هبّ ودبّ ، دون مراعاة لحرمة الأستاذ ، وشرف المؤسسة التي يعمل فيها ، وكرامة الوزارة التي ينتمي إليها؟ هل وصلت هيبة المدرس إلى هذا المستوى من الاحتقار ، تُلَفُّ في وثائقه الشخصية بضائعُ وسلعٌ يقتنيها كل من يتردد على الأسواق ، أو تغدو مطروحة في الطريق ، يدوسها المارة ، وعابرو السبيل؟؟؟ لقد هزُلت فعلا…
أدركت الآن سر الغضب الذي كان طافحا فوق محيا الأستاذ س. عندما استوقفني ، وتفهّمت ما كان يشعر به من خزي وعار ، مثل شخص جرِّد من كل ما يحفظ آدميته… كنت معنيا مثله تماما ، فنسخة التقرير تحمل اسمي أيضا ، وصفتي المهنية ، وتوقيعي ، وملاحظاتي ، وتقويمي للأستاذ ، والنقطة التي منحته إياها… ومدير المؤسسة أيضا معنيّ ؛ لأن توقيعه المفتوح والمغلق مثبتان على التقرير ، وكذا نائب الوزارة… لقد كان مُحِقّا عندما استوقفني ، ليخبرني بهذه النازلة… فمن حقه الاحتجاج والاستنكار…
أُصِبْتُ بالذهول ؛ لأنني شعرت أن كل العمل الذي نقوم به ، والتضحيات التي نتجشمها في سبيل ذلك تذهب أدراج الرياح ، وأن ما نقوم به من زيارات ، وندبِّجه من تقارير ، تنتهي بين أيدٍ غير أمينة ، لا تُقدِّر قيمتها ، ولا تعرف ما تعنيه للأستاذ والمراقب التربوي… ودّعني الأستاذ س. وتركني في حيرة من أمري… كنت كالمصعوق… كيف حدث هذا؟ ولماذا مدينة الخميسات بالذات ، وليس الرباط أو مكناس أو طنجة ، أو ورززات ، أو تاونات أو غيرها من المدن الكثيرة؟ واصلت سيري في اتجاه مكتب العمل ، وقد أخذَتْ عليّ هذه المسألة كل تفكيري… ما أعرفه أن المراقب التربوي بعد تحرير تقرير الزيارة أو التفتيش ، يُرسِل إلى المؤسسة التي زارها ـ عن طريق النيابة ـ سبعَ نسخ ، ليوقعها الأستاذ المعنيّ كاملة ، فيسلمه المدير نسخة ، ويحتفظ بنسخة في ملفه بالإدارة ، ثم يعيد النسخ الباقية إلى النيابة ، فتحتفظ بنسخة في ملف الأستاذ لديها ، ويحتفظ المراقب التربوي أيضا بنسخة في ملف الأستاذ لديه ، وتُبعَث النسخُ المتبقية للوزارة… هذا هو المسار الإداري الذي يتخذه التقرير ، فكيف انتقل من الوزارة إلى بائع “الزريعة” في الخميسات؟ وهل وصلته نسخة الأستاذ س. وحدها ، أم تحصّل على نسخ أخرى لأساتيذ آخرين ، لفَّ فيها بضاعته لزبنائه الذين اقتنوا مع مشترياتهم أسرارا أصبحت متفشية بين الناس ، بعد أن كنا نحسب أنها مصونة ، وستبقى طيَّ الكتمان؟؟ وكم من رجل تعليم حزّ في نفسه أن يقع تقرير زميل له بين يديه بذلك الشكل المهين ، فتجشّم مشقة إرساله إليه؟ الله وحده أعلم…
في المكتب رويت النازلة لزملائي ، فاستغرب بعضهم ذلك واستنكره ، بينما اعتبره البعض الآخر عاديا ، في ظل ما تعرفه دهاليز الوزارة من تسيّب ، وانعدام روح المسؤولية ، وغياب الضمير المهني لدى بعض الموظفين والأعوان… وتشعّب النقاش حين تساءلت عن الإجراء الواجب اتخاذه ، فتباينت الآراء ، بين الاكتفاء برفع تقرير إلى النائب الإقليمي ، وقسم البرامج والمناهج في الوزارة ، وحق الأستاذ في رفع دعوى قضائية ضد الوزارة… ولم يتحمّس الكثيرون لهذا الإجراء الأخير ؛ لما يحتاجه من إثباتات ، وشهود ، وما تعرفه المساطر القضائية ، في الغالب ، من بطء وتماطل…
لكن السؤال الذي ظل يحيّرني وطرحته على زملائي هو : “لماذا الخميسات بالذات؟” أجابني أحد العارفين بخبايا الوزارة ، جوابا لم أجد غيره لتفسير هذه الواقعة… قال : “إن وزيرا أسبقَ للتعليم ينحدر من مدينة الخميسات ، وظّف في عهده عددا كبيرا من الأعوان ، من أبناء مدينته ، في وزارته…
ولا يُستبعَد أن يكون أحد هؤلاء يتاجر في أطنان الورق التي تتكدس في الوزارة ، قادمة من كل أقاليم المملكة…” قلت : “لكن المفروض أن يتم حرق هذه الأوراق ، بعد أن تكون قد استنفدت المدة الزمنية المحددة لها… فتقرير صاحبنا لا يزال حديث العهد ، ولم تكد تمر عليه سنة واحدة… بل هو الجشع ، والاستهتار بالمسؤولية ، وغياب الضمير المهني…”
رفعت تقريرا عن النازلة إلى الجهات المعنية في النيابة ، وفي الوزارة… ولم أنتظر جوابا ، بل كنت أنتظر أن يحمل إليّ ساعي البريد ، في يوم من الأيام ، نسخة من ذلك التقرير ، لو تفضل المدرس الغيور في الخميسات ، بتكثيف زياراته لبائع الفواكه الجافة ( “مول الزريعة” ) في حيه ، لعله يصادف نسخة منه ، وقد لُفّت فيها حفنة من البندق ، أو الحمص…
حين صادفت الأستاذ س. بعد ذلك ، أخبرته بالتفسير الذي أعطاني إياه زميلي ، فحَوْقَلْنا معا ، واعتبرنا الواقعة مقيّدة ضد مجهول…