أحمد لمسيح حين كتب الزجل ليصير أدبا

بقلم:القبطان عبدالله دكدوك
في البداية أود أن أقدم اعتذاري للشاعر الكريم إذ كنت قد وقعت في سهو بالمعنى وتضليل في قراءتي السابقة وإن كان الخطأ واردا في كل مجال علمي فإن من الواجب تصحيحه بأسلوب علمي دقيق لذا أقدم اعتذاري، وأعيد تقديم قراءتي بعد أن أصبحت أكثر عمقا وتحليلا في سبيل تصحيح الفهم والتفاعل مع نھج سيرة الشاعر بشكل سليم.
لقد كان الشاعر أحمد لمسيح ولا يزال من أبرز رموز الزجل المغربي بل يعد أول من حول الزجل من الشفهي إلى المكتوب مما يجعل من إبداعاتھ الأدبية مرجعية مهمة في الأدب الشعبي المغربي وعليھ فإن مندوحة الناقد الجاد تقتضي منھ أن يراجع نفسھ باستمرار وأن يتعامل مع النصوص الأدبية بموضوعية نقدية تتسم بالعمق والتحليل .
أحمد لمسيح… حين كتب الزجل ليصير أدبا خالصا حين نذكر أحمد لمسيح لا نستحضر فقط اسما شاعريا بارزا بل نحضر تجربة فريدة نفسا زجليا أعاد ترتيب علاقة المغربي بلغتھ بحكايتھ بذاتھ .
لم يكن الزجل في مسارھ مجرد قول شفهي أو حكي يومي بل تحول معھ إلى فعل إبداعي رفيع إلى كتابة تستبطن الحكمة الشعبية وتنفتح على الأفق الجمالي العميق كتب لمسيح الزجل لا ليؤرخ لنبض الشارع فحسب بل ليمنح اللغة الدارجة شرعية الشعر وكرامةالأدب وهيبة المعنى.
في عوالمھ يصبح الزجل أكثر من أسلوب إنھ موقف إنھ مرآة للمجتمع ونبض للمثقف وتعبير عن قلق وجودي في قالب مألوف لكنھ غير مستهلك استطاع أن يجعل من العامي أداة للتفكير ومن الصورة البسيطة جسرا للتأمل ومن الكلمة اليومية طقسا للبوح والفلسفةأحمد لمسيح في نظري هو من حرر الزجل من قيود التبسيط ورفعھ إلى مقام الأدب الخالص حيث تتعانق البلاغة الشعبية مع الرؤية العميقة وحيث يكون الشعر ابن الحياة وصوت الناس…
لكنھ في ذات الوقت ابن الدهشة والاختلاف قراءة في حدود تواضعي لمسار الشاعر أحمد لمسيح .
حين أبحر في تجربة الشاعر أحمد لمسيح لا أجد نفسي أمام مجرد شاعر زجال بل أمام ذاكرة وطنية تنبض بالحس الجماعي والوعي الفردي شاعر لا يفصل بين الذات والآخر بين الجذور والتحولات بين الحكمة الشعبية والقلق الوجودي- السيرة والتموقع داخل الحقل الثقافي .
ولد أحمد لمسيح سنة 1950 بقبيلة سيدي إسماعيل ناحية الجديدة – منطقة تحمل من الاسم ما يكفي من رمزية النشأة والتشكل في بيئة شفوية زاخرة بالحكاية والمثل والتعبير الفطري حصولھ على الإجازة في اللغة العربية وآدابها سنة 1977 من جامعة محمد الخامس ليس مجرد شهادة بل علامة على انفتاحھ على المعارف الحداثية وعلى التقاء اللسان الشعبي بالفكر الأدبي المنهجي.
لم يكن لمسيح مجرد شاعر جالس على رصيف الانتظار بل فاعل مؤسساتي وميداني من أستاذ إلى مفتش عام للثقافة من كاتب عام لاتحاد كتاب المغرب إلى منسق لفعاليات الرباط عاصمة الثقافة العربية… كل هذھ التجارب تمنح نصوصھ خلفية رمزية تجعل من كل بيت زجلي موقفا ومن كل ديوان مرآة لسياق ثقافي وسياسي- العناوين والمضامينما يشدني في تجربة احمد لمسيح هو قدرتھ على توظيف العنوان كمدخل إلى النص بل أحيانا كقصيدة قائمة بذاتها فحين يضع عنوانا مثل شكون اطرز الما؟ فهو لا يبحث عن جواب بل يدفعنا إلى السؤال والدهشة والتأمل في عبثية الواقع ورمزية المستحيل في نا ماكاينش لا أقرأ فقط إنكارا للوجود بل أرى تمردا لغويا على القوالب ونفيا وجوديا لما يفرض على الشاعر من أدوار ومواقف أما في ريحة الكلام، فأشتم ذلك البعد الحسي للغة كأن الكلمة عندھ ليست فقط أداة تواصل بل كائن حي لھ ذاكرة ووجدان-الزجل عند لمسيح – من القول الشعبي إلى الفكر الفلسفيلغة أحمد لمسيح الزجلية لا تستهلك بسرعة بل تتذوق على مهل هو شاعر يخفي المعنى خلف العبارة يخاتل القارئ ويحرضھ على التأويل الزجل عندھ ليس فقط متنا شفويا بل تجربة فكرية اشتغال على التورية والتناص والبنية الرمزية للصورة، يقول القروي ما يريد قولھ ببساطة أما لمسيح فيقول البسيط لكنھ يخفي وراءھ شبكة دلالات لا تلتقط من الوهلة الأولىالانفتاح على الوسائط والمخيلة البصريةما يلفتني في تجربة هذا الشاعر هو انفتاحھ على الفنون البصرية اشتغالھ مع التشكيليين … ليس فقط تكاملا جماليا بل تعبير عن وعيھ بأن الزجل يمكن أن يرى كما يسمع وأن القصيدة قد تكون لوحة كما تكون نغمة -من المحلي إلى الكوني .
حين أراجع مؤلفاتھ لا أستحضر الكم فقط بل أتأمل في تطور الرؤية في نضج اللغة وفي التحولات من الانشغال بالهوية الفردية إلى الانخراط في الهم الجماعي .
أحمد لمسيح هو ذلك الصوت المغربي الذي استطاع أن يزرع زجلھ في التربة المحلية ويسقيھ من ماء اللغة الأم ثم يطلقھ في فضاءات الترجمة (الفرنسية الإسبانية الهولندية الإنجليزية) وكأن الزجل عندھ لا يحتاج إلى جواز سفر.-شكون اطرز الما؟ حين أفتح ديوان شكون اطرز الما؟ لا أفتح نصا عاديا بل أشرع نافذة على حس لغوي مغاير ينفلت من القيود المعيارية للغة العالمة ويعيد للدارجة المغربية شرف الشعرية وقداسة القول .العنوان وحدھ علامة زاخرةشكون استفهام يتجاوز طلب الفاعل ليربك القارئ اي المتلقي ويجعلھ شريكا في المعنىاطرز فعل يحمل أبعاد الصنعة الدقة التزيين ويستدعي الأنامل الأنثوية والمهارة التقليديةالما.
الماء رمز الحياة الهشاشة الانسياب الانفلات ما لا يطرز في الواقع فالسؤال ان العنوان ليس بريئا هل يمكن تطريز ما لا يمسك؟ هل يمكن تحويل الحياة الغياب الوجدان إلى زخرفة شعرية؟هنا يشتغل احمد لمسيح في منطقة رمادية بين الممكن والمستحيل بين الحسي والمتخيل- المعجم الشعري بين البساطة والدلالات العميقةلمسيح لا يتعالى باللغة لكنھ لا يسقط في الابتذال كلماتھ بسيطة مألوفة لكنھ يفرغها من دلالاتها القاموسية ليعيد تشكيلها وفق منظور ذاتي وجودي نوضي نسول المراياعلى شكون خلا فيا الضوء، إنه لا يقول أسأل نفسي بل يحيل على وسيط رمزي المرايا هذھ المسافة بين أنا الشاعر وأنا المتكلم تتيح التأويل وتغني التجربة- الإيقاع الداخلي لا الظاهرأحمد لمسيح لا يعلي من الإيقاع الخارجي التقليدي بل يشتغل على إيقاع داخلي نابع من التكرار والانزياح والتنغيم الصوت عند الشاعر لا يطرب بقدر ما يقلق هناك موسيقى تولد من تجاور الصور لا من رتابة القافية تقاطع العوالميحضر التناص الديني الشعبي والأسطوري من غير تصريح مباشر في هذا الديوان نستشعر روح القرآن نبرة المواعظ وجمالية الموروث كثيرا ما يحول السؤال استحضار خفي لرمزية الألم الفداء الوجع الإنساني كما ورد في سرديات الأديان والميثولوجيا الذات الشاعرة المتشظية الباحثة عن المعنى .الذات في هذا الديوان ليست ساكنة بل دائمة التحول هي الطفل حينا العاشق حينا الضحية حينا والسارد المتعالي حينا آخر هذھ التعددية تمنح النص طاقة درامية داخلية تجعل من القارئ شاهدا على التحول لا مجرد مستهلك للمعنى-الدارجة كلغة شعرية نفس بلون شعبي ما يميز شكون اطرز الما؟أنھ يحمل اللغة العامية ما لا تحتملھ في العادة العمق الفلسفي لم تعد الدارجة لغة اليومي فقط بل لغة الشعر والفكر والوجدان إنه يعيد ترتيب علاقتنا بالعامي والمحلي ويؤسس لشعرية مغربية خالصة ويبقى ديوان شكون اطرز الما؟ ليس فقط تجربة زجلية بل هو مشروع شعري متكامل.
أحمد لمسيح في هذا العمل يخط بخيوط الكلمة على سطح الماء كمن يغامر بالتطريز على المستحيل هذا النص بتقديري يصلح مدخلا لفهم فلسفة الشاعر وعتبة تأويلية لإصداراتھ اللاحقةفي الختام أقول إن أحمد لمسيح هو فرادة وإيقونة وطنية تستدعي إصداراتھ التوقف عندها بتمعن لأنها تمثل خصوبة قد تحيل نقادنا وكتابنا إلى عوالم تضفي اجتهاداتهم مساحة واسعة للغوص في تركيب شاعر يتنقل بنا دائما بين طرح السؤال والبحث في المبنى والمعنى أتمنى بصدق أن يكون اجتهادي هذا قد ترك بصمتھ فما أبلغ أن نولي اهتماما بأعلامنا الذين هم مفاخر وطنية نستنير بهم أمام الشعوب والأمم.