أخبارالناس و الحياةقصص و شخصيات

عبد الرحمن وثروة بلا وريث

بقلم: مصطفى بوريابة

في مدينة مطلة على البحر، حيث تعبر السفن المحملة بالخيرات، وتتعالى أصوات التجار في الأسواق، عاش رجل يُدعى عبد الرحمن. كان من أغنى تجار المدينة وأكثرهم نفوذًا، يمتلك القصور والمزارع والسفن، لكن رغم هذا الثراء الذي يحلم به الكثيرون، كان عبد الرحمن يحمل في قلبه حزنًا دفينًا.

لم يُرزق عبد الرحمن بولد يُخلّد اسمه، ولم يكن له وريث يُسلّمه هذه الثروة الهائلة التي جمعها بسنواتٍ من الجهد والتعب. ومع تقدّم عمره، ازداد قلقه وخوفه على مصير ماله بعد رحيله. كان يبحث عن شخص جدير بالثقة، يُحسن الحفاظ على هذا الإرث، ويُدير المال بحكمة ورحمة.

وفي قصره الفخم، كانت تعيش ثلاث خادمات يُحببن سيدهن ويخدمنه بإخلاص: فاطمة الحكيمة الصبورة، وسعاد الطيبة المُحبة للعطاء، وليلى الجميلة الطموحة التي كانت ترى في المال وسيلة للزينة والتفاخر.
لكن عبد الرحمن كان بحاجة لمعرفة من بينهن تستحق ثقته، ومن يُمكن أن يحمل مسؤولية هذه الثروة بعده. فقرر أن يُخضعهن لاختبار صعب، اختبار يُظهر معدن كل واحدة منهن.

وهكذا بدأت حكاية عبد الرحمن، حكاية عن المال والحكمة، عن العطاء والجشع، وعن البحث عن وريث حقيقي… فإلى أين ستأخذنا هذه القصة؟

– الجزء الأول: التاجر الذي يملك كل شيء إلا السعادة
في مدينة عظيمة مطلة على البحر، حيث تعبر السفن المحملة بالحرير والتوابل والذهب، كان يعيش رجل يُدعى “عبد الرحمن”. كان واحدًا من أغنى تجار المدينة وأكثرهم شهرة. امتلك أسواقًا تضج بالحياة، ومزارع تمتد على مد البصر، وسفنًا تُبحر إلى أقصى بقاع الأرض. لكن رغم هذا الثراء الفاحش، كان هناك فراغ عميق يسكن قلبه، فراغ لم يستطع أي مقدار من المال أن يملأه.

كان عبد الرحمن عقيمًا، ولم يُرزق بولد يُخلّد اسمه ويرث ماله. كلما كبر سنه، ازداد قلقه على إرثه وثروته، وخشي أن تضيع بعد رحيله. كان يتساءل دائمًا: “لمن سأترك كل هذا؟ من يستحقه؟”
عاش عبد الرحمن في قصر فخم تُحيط به حدائق غنّاء، يملؤها عبير الياسمين وزقزقة العصافير. ورغم جمال هذا المكان وثرائه، كان القصر يُشبه قفصًا ذهبيًا يُخفي بداخله رجلًا حزينًا. في هذا القصر، كانت تعيش ثلاث خادمات يخدمنه بإخلاص:
-فاطمة: كانت الأكبر سنًا، حكيمة وعاقلة، يعرف الجميع أنها تتمتع برأي سديد وقلب رحيم.
-سعاد: كانت متوسطة العمر، طيبة ومرحة، ترى أن السعادة تكمن في العطاء ومساعدة الآخرين.
-ليلى: أصغرهن سنًا وأجملهن، لكنها كانت طموحة إلى حد الجشع، تسعى وراء الزينة والمتاع، وتحلم بالثراء السريع.

كان عبد الرحمن يُراقب خادماته بصمت، يتأمل تصرفاتهن ويُفكر: “هل بينهن من يستحق أن يرثني؟”

وفي إحدى الأمسيات، بينما كان جالسًا في حديقته، اقتربت منه فاطمة بهدوء وقالت:
— “سيدي، أراك دائم التفكير، وهمّك يزداد يومًا بعد يوم. أعلم أن المال لا يُغني القلب الحزين، لكن الله يُعطي كل إنسان ما يُناسبه. فاصبر، فربما حكمته تخفي خيرًا لك.”

ابتسم عبد الرحمن ابتسامة شاحبة وقال:
— “صدقتِ يا فاطمة. لكن الإنسان ضعيف أمام شوقه. كل هذا المال، وكل هذه الثروة، لا تساوي شيئًا في غياب وريث يُحسن استخدامها.”

في تلك الليلة، استلقى عبد الرحمن في سريره، لكنه لم يذق طعم النوم. كان عقله مشغولًا بفكرة واحدة: “كيف أُقرر من يستحق إرثي؟”

– الجزء الثاني: رحلة البحث عن الإجابة

مرت أيام وعبد الرحمن غارق في حيرته. لم يعد يجد متعة في ماله ولا في تجارته، فكان يذهب كل يوم إلى حديقته، يُطيل النظر إلى الأفق كأنه ينتظر إجابة تأتيه من بعيد. حتى خادماته لاحظن شروده، لكن لم يجرؤ أحد على سؤاله.

وذات صباح، بينما كان يُتابع حسابات تجارته في مكتبه، دخل عليه أحد التجار وقال:
— “سيدي عبد الرحمن، سمعت عن رجل حكيم يُقال إنه يُحقق الأمنيات، ويُجيب عن أصعب الأسئلة. يعيش في قرية بعيدة خلف الجبال.”

شعر عبد الرحمن وكأن هذا الخبر جاء في وقته تمامًا. لم يُضيّع لحظة، وأمر بتجهيز قافلته، وانطلق في اليوم التالي.

استغرقت رحلته أيامًا طويلة، عبر خلالها الجبال والوديان حتى وصل إلى تلك القرية الصغيرة، حيث دلّه أهلها على كوخ بسيط يقف عنده الحكيم. كان الرجل عجوزًا ذا لحية بيضاء وعينين تلمعان بحكمة السنين.

جلس عبد الرحمن أمامه، وحكى له عن حزنه وحيرته:
— *”أنا رجل رزقني الله مالًا كثيرًا، لكن حُرمت الولد. وأخشى أن أموت دون أن أُخلّف أحدًا يُحسن إدارة ثروتي. أريد أن أعرف: لمن أُعطي إرثي؟ ومن يستحق.

– الجزء الثالث: الاختبار الكبير
عندما عاد عبد الرحمن إلى قصره، بدا أكثر حزمًا وتصميمًا. استدعى خادماته الثلاث: فاطمة، سعاد، وليلى، وجمعهن في مجلسه الواسع. جلس على كرسيه العالي، وبنبرة جادة قال:

— “سأسافر في رحلة طويلة قد تستغرق شهرًا أو أكثر. لكن قبل أن أغادر، سأُعطي كل واحدة منكن كيسًا من الذهب. عندما أعود، سأرى كيف تصرفت كل واحدة بما أعطيتها، ومن خلال ذلك سأعرف من منكن تستحق ثقني وإرثي.”

نظرت الخادمات إلى بعضهن بدهشة. لم يُفصح لهن عن نيته الحقيقية، لكن كل واحدة أدركت أن هذا الذهب قد يُغيّر حياتها.

في صباح اليوم التالي، غادر عبد الرحمن قصره، وبدأت الخادمات في التفكير فيما سيفعلن بثروتهن الصغيرة.

فاطمة، بحكمتها المعتادة، ذهبت إلى السوق واشترت تجارة بسيطة: أقمشة وزيوتًا وعطورًا، ثم بدأت تبيعها بحكمة وصبر. ومع مرور الأيام، كان ربحها يزداد، وكانت تُعيد استثمار المال حتى تضاعف. لم تهتم بالإنفاق على نفسها، بل ركّزت على تنمية المال كما يفعل التجار الأذكياء.
سعاد، بقلبها الطيب، فكرت في الآخرين قبل نفسها. اشترت طعامًا وملابس ووزعتها على الفقراء والمحتاجين في المدينة. كانت تقول: “إذا كان هذا المال نعمة، فالأجدر أن يُدخل السعادة على قلوب الناس.” لم تُبقِ لنفسها إلا القليل، لكن قلبها امتلأ فرحًا بما فعلت.
أما ليلى، فقد ذهبت مباشرة إلى السوق واشترت أثوابًا فاخرة، وحُليًّا براقة، وعطرت نفسها بأغلى العطور. كانت تتباهى بجمالها في أروقة القصر، معتقدة أن المال وُجد ليُصرف على الرفاهية والمتعة.

مرّ الشهر، وعاد عبد الرحمن إلى قصره. استدعى خادماته الثلاث، وقد حان الوقت ليعرف كل واحدة منهن كيف استثمرت ما أعطاها.

– الجزء الرابع: كشف الحقائق
جلس عبد الرحمن في قاعة القصر الفسيحة، وحوله أجواء من الترقب. استدعى خادماته الثلاث، ووقفن أمامه وملامح كل واحدة منهن تحكي قصتها دون أن تنطق.

نظر إلى فاطمة أولًا وسألها:

— “ماذا فعلتِ بما أعطيتكِ؟”

أجابت فاطمة بهدوء وثقة:

— “يا سيدي، أخذت الذهب واشتريت به تجارة بسيطة من الأقمشة والعطور. عملت بجد، وبعت واشتريت بحكمة. بحمد الله، تضاعف المال، وصار ضعف ما أعطيتني. تعلمت أن المال إذا أُدير بعقل ينمو ويُفيد صاحبه ومن حوله.”

هزّ عبد الرحمن رأسه بإعجاب، وقال:

— “أحسنتِ يا فاطمة. المال يحتاج إلى من يُحسن تدبيره.”

ثم التفت إلى سعاد، وسألها:

— “وأنتِ يا سعاد؟ ماذا فعلتِ؟”

ابتسمت سعاد ابتسامة مُشرقة وقالت:

— “يا سيدي، رأيت أن هذا المال نعمة، والنعمة لا تكتمل إلا إذا وصلت إلى من يحتاجها. اشتريت به طعامًا وملابس، ووزعتها على الفقراء والمساكين. أبقيت القليل لنفسي، لكن سعادتي كانت في رؤية الفرح في عيون الآخرين.”

نظر إليها عبد الرحمن طويلًا، ثم قال:

— “قلبكِ طيب، وأنتِ تعرفين أن المال وسيلة لفعل الخير. أحسنتِ في عطائك.”

وأخيرًا، التفت إلى ليلى. كانت ترتدي ثيابًا جديدة، وحليًّا ذهبية، وتفوح منها أغلى العطور. سألها:

— “وأنتِ يا ليلى؟ كيف تصرفتِ بما أعطيتكِ؟”

ابتسمت ليلى بغرور وقالت:

— “اشتريتُ أجمل الثياب وأغلى الحليّ. رأيت أن هذا المال فرصة لأُظهر جمالي ومكانتي. ما فائدة المال إن لم نستمتع به ونُدلل أنفسنا؟”

ساد صمت ثقيل في القاعة. نظر عبد الرحمن إليها، ثم قال بحزن:

— “ظننت أن الجمال وحده لا يكفي، لكن يبدو أنكِ تظنين أن المال وُجد للمتعة فقط. لا بأس، فكل إنسان يُنفق ما يملكه بحسب قيمه.”

– الجزء الخامس: القرار المصيري

بعد أن استمع عبد الرحمن لحديث خادماته، غرق في تفكير عميق. كان يعلم أن هذه اللحظة ستُحدد مصير ثروته وحياته بعد رحيله. وقف من مجلسه، وسار ببطء نحو النافذة، يُراقب البحر الممتد أمامه، وكأنه يُحاول أن يجد في أمواجه الجواب الذي يُبحث عنه منذ زمن.

استدار إليهن أخيرًا، وقال بصوت هادئ لكنه حازم:

— “لقد رأيت كيف تصرفت كل واحدة منكن بالذهب الذي أعطيتكن إياه. والآن، حان وقت القرار.”

تقدم نحو فاطمة وقال:

— “أنتِ أثبتِ أنكِ امرأة حكيمة، تعرفين كيف تنمين المال وتحافظين عليه. ثروتي لم تأتِ بسهولة، وبحكمتكِ رأيت أنكِ تفهمين قيمة العمل والصبر. لقد ضاعفتِ المال، وهذا دليل على أنكِ تستطيعين الحفاظ عليه.”

ثم التفت إلى سعاد وقال:

— “أما أنتِ، فرغم أنكِ لم تُضاعفي المال، إلا أنكِ فهمتِ قيمة أخرى لا تقل أهمية: العطاء. المال بدون رحمة وقلب يُصبح عبئًا، وأنتِ جعلتِ منه وسيلة لإسعاد الآخرين. رأيت فيكِ طيبة نادرة، وروحًا كريمة.”

توقف عند ليلى، وحدق فيها طويلًا. كانت نظراته هذه المرة مُختلفة، يملؤها خيبة أمل:

— “أما أنتِ يا ليلى، فقد رأيتِ في المال فرصة للزينة والتفاخر. أنفقتِ كل ما أعطيتكِ على نفسكِ، دون أن تُفكري في المستقبل أو فيمن حولكِ. الجمال يزول، والمال إن لم يُحسن استثماره يُفنى. وأنتِ أثبتِ أنكِ لا تُدركين هذه الحقيقة.”

ساد صمت ثقيل. نظرت ليلى إلى الأرض، وبدأت تشعر أن طمعها وغرورها قد كلفاها كثيرًا.

أخذ عبد الرحمن نفسًا عميقًا، ثم أعلن قراره:

— “سأُقسم ثروتي بين فاطمة وسعاد. فاطمة لحكمتها وقدرتها على تنمية المال، وسعاد لقلبها الطيب الذي يُحسن العطاء. أنتما عائلتي التي لم تُولد، وأثق أنكما ستحافظان على إرثي، ليس فقط كمال، بل كمسؤولية.”

غرقت عينا فاطمة بالدموع وهي تُتمتم:

— “شكرًا لثقتك يا سيدي. سأفعل كل ما بوسعي لأكون عند حسن ظنك.”

أما سعاد، فابتسمت ابتسامة دافئة وقالت:

— “سأجعل جزءًا من هذه الثروة وقفًا للفقراء والمحتاجين، ليبقى عطاؤك خالدًا.”

غادرت ليلى القاعة مُنكسرة، لكنها تعلمت درسًا لن تنساه: المال وحده لا يُعطي قيمة للإنسان، بل ما يفعله بهذا المال هو ما يُحدد قيمته الحقيقية.

وهكذا عاش عبد الرحمن أخيرًا بسلام، مُطمئنًا أن ثروته في أيدٍ أمينة، وأن إرثه لن يكون مجرد مال، بل حكاية من الحكمة والعطاء.
وهكذا انتهت رحلة عبد الرحمن في البحث عن من يستحق إرثه، رحلة لم تكن عن المال وحده، بل عن اكتشاف القيم الحقيقية التي تُحدد جدارة الإنسان. في النهاية، لم يكن الثراء معيارًا كافيًا، بل كانت الحكمة والعطاء هما الكنز الحقيقي.

فاطمة أثبتت أن المال ينمو بالعقل والتدبير، وسعاد أظهرت أن الثروة تصبح ذات معنى حين تُستخدم لإسعاد الآخرين. أما ليلى، فقد تعلمت درسًا قاسيًا عن التبذير والأنانية، وعرفت أن الجمال والترف زائلان ما لم يُدعما بحكمة ورُشد.

عاش عبد الرحمن بقلب مُطمئن، بعد أن وجد في فاطمة وسعاد أبناءً لم يُنجبهم، وورثة سيحملون إرثه بما يليق به. وأصبح قصره شاهدًا على قصة علّمت الجميع أن المال ليس غاية، بل وسيلة تُظهر حقيقة صاحبه.

وهكذا أُسدلت ستارة هذه الحكاية، تاركةً خلفها درسًا خالدًا: الثروة لا تُقاس بما نملك، بل بما نفعل به.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button