الذكاء الاصطناعي ضرورة حيوية للعمل الجمعوي في إفريقيا

يعيش العملُ الجمعوي في إفريقيا مرحلةً مفصليةً لا تُشبه ما قبلها. لم يَعُد التحدي محصورًا في التمويل، أو في ضعف التكوين، أو في قلة الموارد البشرية، بل امتدّ ليشمل ضرورة إعادة التفكير في الطريقة التي تُدار بها الجمعيات، وفي الأدوات التي تستخدمها للتواصل، والتخطيط، والتأثير المجتمعي. لقد انتهى عهد الإدارة اليدوية، وبدأ زمنُ الذكاء الاصطناعي.

خبير في الذكاء الاصطناعي – أستاذ جامعي – كاتب وباحث
المعهد العالي للإعلام والاتصال. الرباط، المغرب
وفي هذا السياق، يعتقد كثيرٌ من الفاعلين في الحقل الجمعوي أن الذكاء الاصطناعي ترفٌ تقنيٌّ خالص، يخص الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات. لكن الحقيقة، التي لم تَعُد خفية، هي أن الأدوات الذكية أصبحت في متناول الجميع، بما في ذلك الجمعيات الصغرى في القرى والمداشر. ولعلّ التحدي اليوم ليس تكنولوجيًا في حد ذاته، بل هو ذهنيٌّ بالأساس. فهل نحن مستعدون لنُغيّر من طرقنا التقليدية؟ وهل نملك الشجاعة لنخرج من منطقة الراحة؟
إن التكنولوجيا، حين تُستخدم بذكاء، تُصبح أداةً للتمكين، لا للاستبعاد. وفي السياق الإفريقي، حيث تعمل الجمعيات غالبًا في ظروف قاسية ومعقدة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُمثّل قفزةً نوعية نحو تحسين الخدمات، وترشيد الجهد، وتوسيع الأثر. فهل سنكون من أوائل من يغتنم هذه الفرصة؟ أم سننتظر حتى تُفرض علينا بأسلوب قاسٍ؟
من خلال مرافقتي لعددٍ من الجمعيات في مجال التحول الرقمي، لمستُ الفرق الجذري بين جمعيات تعمل في نفس الحقل، بنفس الإمكانيات تقريبًا، لكن إحداها قررت أن تدخل عالم الذكاء الاصطناعي، والأخريات بقيت حبيسات الملفات الورقية. وهكذا، لم تكن النتائج متقاربة، بل متباعدة جدًا.
لنأخذ مثالًا بسيطًا: جمعية محلية في إحدى ضواحي العاصمة كانت تُرسل تقاريرها الشهرية يدويًا، وتقوم بجمع المعطيات من الميدان عبر أوراق تُجمع في الملفات. و بعد ثلاث دوراتٍ تكوينية فقط، بدأت تستخدم أدواتٍ مجانية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل:
. روبوتات المحادثة للرد على أسئلة المستفيدين
. مولدات التقارير الآلية
. أدوات تحليل البيانات لفهم سلوك المتبرعين
والنتيجة؟
ارتفاع التفاعل بنسبة 40٪، وانخفاض وقت إعداد التقارير من أسبوع إلى 45 دقيقة، وتوفير في الجهد البشري بنسبة تفوق 60٪. والأهم من ذلك، بدأت الجمعية تُفكّر في مشاريع مستقبلية طموحة، بعدما كانت جهودها تُستهلك في الروتين الإداري اليومي.
ليست هذه حالةً معزولة، بل هو واقعٌ جديد آخذ في التوسع. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم في كل مراحل العمل الجمعوي: من التشخيص، إلى التخطيط، إلى التنفيذ، إلى التقييم. كما يمكنه أن يُساعد في معرفة من هم المستفيدون الأكثر حاجة، وأين يجب توجيه الموارد، وكيف يمكن تحسين الرسائل الاتصالية لجذب دعم أكبر. لكن، ليحدث ذلك، نحتاج إلى إرادة، وإلى عقلية جديدة لا تخاف من التجربة.
بعبارةٍ أخرى، لا يكفي أن نُبشّر بالذكاء الاصطناعي كقبسٍ من الأمل، بل يجب أن نُمارسه كخيارٍ استراتيجي، لأن الجمعيات التي تشتغل في مجالات مثل التنمية المحلية، تمكين النساء، التعليم، الصحة، حماية البيئة، قادرةٌ على أن تجعل من الذكاء الاصطناعي ذراعًا حقيقية للتغيير. لكن ذلك يتطلب أمرين:
- أولًا، وعيًا قياديًا يؤمن بأهمية التحول الرقمي؛
- ثانيًا، شراكاتٍ بنّاءة مع الجامعات، والمختبرات، والمبادرات الشبابية.
وإنه لمن غير المعقول أن يظل القرار الجمعوي في كثيرٍ من البلدان الإفريقية رهين أدوات تسعينيات القرن الماضي، في زمنٍ تُدار فيه مشاريع كاملة عبر تطبيقات تُشغّل من الهاتف الذكي.
وبالتالي، فما نحتاجه ليس معجزةً تكنولوجية، بل استثمارًا في البشر: تكوين المتطوعين، توفير الحد الأدنى من المعدات، تبسيط الأدوات، ودمج الذكاء الاصطناعي في صميم الرؤية الجمعوية.
لا شك أن الطريق أمامنا طويل، لكن بداية الرحلة لا تتطلب أكثر من قرار نُغيّر من خلاله طريقة التفكير. فبدل أن نبقى في موقع المُستهلكين السلبيين للتكنولوجيا، لِمَ لا نُصبح منتجين، ومُبادرين، ومُبتكرين؟ ولمَ لا تكون إفريقيا هي القارة التي تقود التحول الجمعوي الذكي عالميًا، كما كانت في يومٍ من الأيام مهدًا للحكمة والاختراع؟
إن تحقيق هذه المعادلة بسيطٌ جدًا؛ فالذكاء الاصطناعي أصلٌ من الأصول، وإن استثمرته الجمعية بحكمة، ستجني مردوديةً تفوق التصور؛ وإن تجاهلته، ستجد نفسها، عاجلًا أو آجلًا، خارج حلبة السباق.