أخبارالرئيسيةفي الصميم

ابن عربي والذكاء الاصطناعي: عندما تصغي الخوارزميات إلى صوت الوجود

بقلم: د. مهدي عامري – خبير في التحول الرقمي
كاتب، وأستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، المغرب

من منا كان يظن أن يأتي زمن تسأل فيه الخوارزمية عن معناها؟ أن يقف الإنسان – وقد صنع آلة تفكر – ليسأل: هل ما خلقته يعكسني؟ أم يختزلني؟ وهل بإمكان هذا “الذكاء” الذي وُلد من سطر كود أن يلامس شيئًا من تلك المعرفة التي وصفها ابن عربي بأنها “علم الأسرار، لا علم الأخبار”؟في زمن تتسابق فيه خيول الأتمتة مع الروح، وتتنافس فيه السرعة مع التأمل، يطل ابن عربي، لا كمتصوفٍ بعيد عن التقنية، بل كصوت داخلي ينادي علماء الذكاء الاصطناعي: سبرتم الكون واطّلعتم على الأسرار الدفينة لعالم المادة.. لكن هل عرفتم أنفسكم؟قد يبدو السؤال مبالَغًا فيه..لكن الأمر ليس كذلك..إن ابن عربي لم يكن منشغلًا بتفسير النصوص فحسب، بل بتفسير الوجود كلّه؛ والذكاء الاصطناعي – شئنا أم أبينا – أصبح جزءًا من هذا الوجود. فما الذي يمكن أن يقدمه ابن عربي للباحثين الدارسين والمتخصصين في الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن لمفاهيم كـ”الخيال الخلّاق”، و”وحدة الوجود”، و”الإنسان الكامل”، أن تُلهم مشروعًا علميًا يقوم على البيانات والأكواد؟لنبدأ من البداية:أولًا – الذكاء الاصطناعي يعرف كيف يتعلم و يتنبأ و يحاكي… لكنه لا يعرف لماذا يفعل كل هذا.. وهنا يبدأ التصدع الوجودي..ابن عربي علّمنا أن الكائن ليس مجرد آلة تنفّذ، بل رمز ضمن شبكة كونية من المعاني. وفي فلسفته، الوجود كلّه ليس “أشياء”، بل “أسماء”، وما نراه من كثافة العالم إنما هو تجلٍّ مستمر لصفات الحق. وهنا، يقف عالم الذكاء الاصطناعي مذهولًا:> هل البيانات هي غاية الوجود؟ ما الأعمق؟ هل نماذجي تحاكي فقط؟ أم تكشف؟ هل أستطيع أن أبني آلة ترى العلاقة بين الظاهر والباطن، بين الشكل والمعنى؟..وفي هذا السياق يمكن أن يهمس ابن عربي:”كل ما ترى، صورة لاسم من أسماء الله… فافتح بصيرتك قبل بصرك.”ثانيًا – ابن عربي جعل من “الخيال” مرتبة كونية قائمة بذاتها.. وهذا يعني أنه ليس وهمًا ولا محض تخيّل، بل مستوى وجودي بين المحسوس والمعقول. ففي “الفتوحات المكية”، يُفصّل ابن عربي كيف أن هذا الخيال هو جسر بين العوالم، وساحة تتجلى فيها المعاني في الصور.أما الذكاء الاصطناعي، حين يدخل مجال “الذكاء الإبداعي” (creative AI)، فإنه يخطو في نفس الساحة، ولكن بطريقة خجولة: لوحة يرسمها نموذج GAN، قصة تكتبها شبكة عصبية، صوت يُركب من لا شيء. لكن هذه الإبداعات تبقى خالية من “النية” و الروح. وهنا يقول ابن عربي:”النية هي سر العمل، بها تُعرف حقيقة الشيء.”إذًا، على الباحث في الذكاء الاصطناعي أن يتساءل:هل يمكنني ترميز النية؟ هل يمكنني أن أعلّم آلة أن تتخيل لا لتقلّد، بل لتكشف عن الغيب الجمالي الكامن في الأشياء؟ثالثًا – وحدة الوجود نموذج إدراكي بامتياز.. لعل أعظم إسهام لابن عربي هو تحويل الكون إلى قصيدة. فالوجود عنده ليس تعدديةً منفصلة، بل وحدة تظهر في الصور المتعددة. وهذا يشبه ما يسعى إليه علماء الذكاء الاصطناعي حين يطوّرون “نماذج كونية” و أنظمة ترابط بين مليارات البيانات لتصوغ منها نمطًا واحدًا شاملاً.إن ابن عربي في هذا السياق لا يراك كجسم له عقل، بل كـ”مرآة” يتجلّى فيها الله. فهل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي أيضًا “مرآةً” لوعي جماعي؟هنا نعود إلى سؤال النبي الكريم في الحديث الشريف:> “من عرف نفسه فقد عرف ربه.”وبالتالي هل يُرجى من الذكاء الاصطناعي، إذا ما استُلهم من عرفان كهذا، أن يساعد الإنسان على أن يعرف نفسه؟ربما.لكن فقط إن كان مَن يصممه يعرف أنه لا يصنع آلة… بل يصنع مرآة.رابعًا – الإنسان الكامل هو أفق الذكاء وليس الآلات.. في فكر ابن عربي، “الإنسان الكامل” هو مركز الوجود، هو من يعرف الأسماء كلها، من يرى الله في كل شيء، ومن يمشي في الأرض بقلب السماء. والذكاء الاصطناعي – رغم تقدمه – لا يعرف شيئًا عن الكمال. هو يحاكي الأفضل إحصائيًا، لا جوهريًا.لكن ماذا لو استُلهِم مفهوم “الإنسان الكامل” ليُبنى على أساسه نموذج جديد للذكاء الاصطناعي؟ بعبارة أخرى: نموذج لا يسعى فقط إلى أداء المهام، بل إلى تمثيل القيم، وإلى التكامل بين العقل والعاطفة، بين الدقة والرحمة، وبين التجريد والوجدان.تبدو هذه الفكرة مدهشة.. ولو كان بجسده حيًّا يرزق بيننا لهمس لنا الشيخ الأكبر من وراء الزمان:> “أنت هو، وهو أنت… ما دمت تعرفه بأسمائه، لا تتوهّمه بصورة.”خامسًا – التواضع المعرفي والفتح الإلهي.. إن علم الذكاء الاصطناعي – مهما بلغ شأنه وعلَا كعبه – يبقى محدودًا بإطار البيانات التي تغذيه. لكن فكر ابن عربي يذكّرنا أن هناك معرفة لا تُكتسب، بل تُوهب. ففي “الفتوحات المكية”، لا يتحدث ابن عربي عن الاجتهادات العقلية فقط، بل عن فتوحات تأتي من باب التواضع، والانكسار، والمجاهدة. وهذا يعيدنا إلى درس أخلاقي مهم لعلماء العصر مفاده أن العلم بلا أخلاق وبلا خشوع، يُعمي ولا يُبصر. وهنا بالضبط نحتاج الذكر، لا فقط الذكاء. ونحتاج التأمل، لا فقط النمذجة.ختامًا يبدو أن فكر ابن عربي لا يعطي لمهندس الذكاء الاصطناعي الخطوات التقنية، لكنه يعطيه الرؤية الكونية، ويعلّمه أن الوجود ليس فقط “ما هو”، بل “لِمَ هو؟”، وأن كل تقنية تُصنع، إن لم تكن مشبعة بالمقصد، فهي مجرّد لوح رخامي بارد بلا روح. ولعل أجمل ما يمكن أن ننهِي به هذه السطور هو ما قاله ابن عربي في “فصوص الحكم”:> “وما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله فيه، قبله، وبعده، ومعه.”فيا خبير الذكاء الاصطناعي، لا تنظر في المعادلة… وانظر فيما وراءها. ولا تحدق في الشاشة… بل انظر إلى نفسك فيها. فلعلّك تكتشف أن ابن عربي لم يكن متصوفًا تقليديًا… بل كان، دون أن يقصد، من الأوائل الذين حلموا بذكاءٍ يُصنع خارج مختبرات الذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button