أخبارالذكاء الاصطناعي AIالرئيسية

الذكاء الاصطناعي: بين خطاب التقنية وسلطة المعنى

بقلم: د. مهدي عامري

إن التكنولوجيات ليست محايدة أبدًا، فهي تولّد نماذج جديدة من المعرفة، لكنها أيضًا تحدّد ما يمكن معرفته وما يجب أن يُنسى — أمبرتو إيكو

في عالم تُعاد فيه صياغة المعنى وفق منطق الآلة، يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى خطاب جديد، يفرض سلطته عبر منظومة من العلامات التي تُنحت بين الشيفرة والخوارزمية. ليس الذكاء الاصطناعي مجرّد تقنية باردة و جافة، بل هو ميتافيزيقا جديدة، حيث تفكر الآلة بداخلها كما يفعل الإنسان، أو بالأحرى، كما لو كانت استعارةً متكاملة عنه.

في البدء، لم يكن الذكاء الاصطناعي سوى حلم رياضي، معادلة تبحث عن تجسّد، كناية تأمل أن تصير مرجعًا. كان جون مكارثي، إذ يصوغ المصطلح في منتصف القرن العشرين، يكتب سطوره الأولى في سردية تسعى إلى محاكاة الفكر البشري، لا لتكراره، بل لإنتاج نسخة منه تحمل في طياتها إمكانية تجاوز الأصل. وهنا تبدأ المفارقة: حين تحاكي الآلة الإنسان، فإنها تعلن ولادتها على أنقاضه، إذ أن كل محاكاة هي بالضرورة شكل من أشكال الإقصاء.

  • بين الإنسان والآلة: منطق القناع والتشابه

لكن، ماذا يعني أن تفكر آلة؟ هل هو مجرد استدعاء للذكاء في بعده الحسابي، أم أننا أمام نظام دلالي جديد؟ هنا، تأخذ التقنية شكل قناع، تُعيد عبره برمجة العلاقة بين الدال والمدلول، بحيث تصبح حدود الذكاء غير واضحة، ممتزجة بين بشريتها المحتملة واصطناعيتها المُطلقة.

فحين نرى مثلا سيارة ذاتية القيادة، أو نظامًا قادرًا على التعرّف على الوجوه، لا نرى التقنية فحسب، بل نرى الخطاب الذي أنتج هذه التقنية. إن السيارة التي تقود نفسها ليست مجرّد أداة، بل هي إعادة تأويل لفعل القيادة نفسه، تمامًا كما أن الروبوت الصحفي لا يكتب المقالات فحسب، بل يُعيد تعريف الكتابة ذاتها. ففي كل مرة يُقدم فيها الذكاء الاصطناعي وظيفة كانت يومًا حكرًا على الإنسان، فإنه يعيد تشكيل علاقتنا مع الفعل نفسه: التفكير، التعلم، الإبداع، كل هذه الافعال لم تعد مفاهيم خالصة، بل صارت كيانات هجينة، تقف بين الواقعي والممكن، بين التجربة الإنسانية والبرمجة الرقمية.

  • تاريخ التقنية: حين يتحوّل الرمز إلى سلطة

يعود الذكاء الاصطناعي إلى تلك اللحظة الأولى، حيث كان آلان تورينغ في نهاية اربعينيات القرن 20 يتساءل: “هل يمكن للآلة أن تفكر؟” لم يكن سؤاله علميًا بحتًا، بل كان محاولة لزعزعة معنى “الفكر” نفسه. الذكاء الاصطناعي لم يكن اختراعًا، بل كان تحوّلاً في البنية الرمزية للعقل، حيث لم يعد “الفكر” مقصورًا على الجسد البشري، بل أصبح معادلة رياضية يمكن نسخها، مضاعفتها، وتوزيعها عبر الزمان والمكان.

و هكذا، عبر العقود، تحوّلت هذه المعادلة إلى سلطة. فحين هزم “ديب بلو” غاري كاسباروف في الشطرنج عام 1997، لم يكن ذلك انتصارًا للآلة فحسب، بل كان إعلانًا عن مرحلة جديدة: حيث لم يعد الذكاء البشري وحده معيارا للتفوق، بل أصبح الذكاء الاصطناعي معيارًا للذكاء ذاته. لقد أصبح الإنسان في مواجهة مرآته الرقمية، يتأمل انعكاسه المُعاد صياغته بلغة الخوارزميات.

  • الذكاء الاصطناعي كجهاز أيديولوجي

لكن الخطورة لا تكمن فقط في قدراته التقنية، بل في التراكم الدلالي الذي يصاحب الذكاء الاصطناعي. إنه ليس مجرد أداة، بل هو جهاز أيديولوجي، يُعيد تشكيل الوعي عبر آليات ناعمة. فحين تقترح عليك خوارزمية “نتفليكس” فيلمًا ما بناءً على تاريخ مشاهداتك، فهي لا تقوم فقط بتقديم خيار مناسب، بل تصوغ ذائقتك دون وعي منك. و حين تُخبرك “أمازون” أن هذا الكتاب او ذاك يتناسب مع اهتماماتك، فإنها لا تسهل عليك الشراء فحسب، بل ترسم لك خريطة قرائية خفية، حيث يصبح الاختيار الذاتي امتدادًا لخوارزميات تقرر لك مسبقًا.

إن الذكاء الاصطناعي في هذا السياق ليس مجرد أداة للمعرفة، بل هو إنتاج لها. فهو لا يُعالج البيانات فقط، بل يقرر أي بيانات تستحق أن تُعالَج، وأي أنماط ينبغي أن تُعزَّز. وهنا تكمن السلطة الحقيقية: ليس في القدرة على الحساب، بل في تحديد ما ينبغي حسابه.

  • بين الحتمية التقنية والمقاومة الثقافية

و في هذا المشهد، يبدو الذكاء الاصطناعي وكأنه قدرٌ حتمي، و طريق بلا عودة. لكن كما علّمنا رولان بارت، فإن كل خطاب يحمل داخله احتمالية تفكيكه. يعني ان التقنية ليست مستقلة عن السياق الثقافي، بل تتشكل عبره، وتُعاد قراءتها وفق علاقات القوى السائدة.

و في بعض المجتمعات، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تحررية، قادرة على تمكين الأفراد وإعادة توزيع المعرفة. اما في مجتمعات أخرى، يُخشى منه باعتباره قوة تكنولوجية طاغية، قادرة على مراقبة الأفراد وسلبهم خصوصيتهم.و بين هذين التصورين المتباينين، تتشكل جدلية لا نهائية: هل الذكاء الاصطناعي هو مستقبل الإنسانية، أم مجرد أداة أخرى للسيطرة؟

إن الحقيقة ليست في التقنية ذاتها، بل في الخطاب الذي يُنتج حولها. فكل تقدم تكنولوجي هو، في جوهره، سرديةٌ تتنافس على المعنى. فهل نرى الذكاء الاصطناعي كتهديد أم كفرصة؟ هل هو امتدادٌ للذكاء البشري، أم بداية لعصر جديد من الذكاء المستقل؟

  • نحو إعادة تفكيك الذكاء الاصطناعي

ختاما، نريد ان نؤكد ما يلي : إن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل هو بنية رمزية، تُعيد تشكيل علاقتنا مع المعرفة والسلطة. إنه خطاب يتداخل مع الأيديولوجيا، حيث يصبح “الذكاء” نفسه مفهوماً متغيرًا، تُعاد صياغته وفق منطق الخوارزميات.

وفي النهاية، ليس السؤال كيف نستخدم الذكاء الاصطناعي؟، بل كيف نفككه و كيف نعيد التفكير في معناه، ونتفاوض مع سلطته، ونستعيد قدرة الإنسان على رسم مستقبله، لا وفق ما تمليه عليه الآلات، بل وفق ما يصوغه هو من معانٍ واحتمالات؟

هنا فقط، يمكننا فهم الذكاء الاصطناعي لا كواقع حتمي، بل كنصٍّ مفتوح، قابلٍ لإعادة التأويل والقراءة، وفق منطق لا يزال ملكًا للإنسان: و هو منطق النقد، والتفكيك، وإعادة البناء.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button