

للجغرافيا على الأمم والشّعوب، أفضال وكرامات. لكنّها قد تكون عليهم وبالًا، تتحوّل الأفضال والكرامات بمقتضاها إلى لعنات. الجغرافيا هنا شأنها شأن السّلاح البتّار، قد يكون أداة سلْم وتعايش، وقد يحوّله الإنسان إلى وسيلة تناحُر واقتتال.
لم تكن العلاقاتُ بين المغرب والجزائر على طبعِها يومًا. كانت باستمرار عرْضةً للتّطبُّع، إذْ لا تكاد تبيتُ على حال، إلّا لتستفيق على حالٍ آخر.
هذه كِناية حقيقيّة عن جوارٍ خشنٍ بين بلدَيْن لا تجمعهما اللّغة والّثقافة والدّين فحسب، بل يشتركان في حدودٍ يتجاوز طولُها 1400 كيلومتر، وامتداد شاسع على الضّفة الجنوبيّة للبحر المتوسط، دَعْ عنكَ التّداخل البشري على طرفَي الحدود، لا يستطيع المرءُ أمامَه التّمييز بين المغربي والجزائري إلّا بلكنة بسيطة في اللّهجة المستعملة.
مستجد الصّحراء كان النّقطة التي أفاضت كأس علاقات
لم تكن دائمًا خالية من التشنّجات وإن من خلف ستار
بيْد أنَّ الامتدادَ الجغرافي وتداخل الشعبَيْن لدرجةِ التَّماهي أحيانًا، لم يستطيعا إخفاء التّباين العميق في الخيارات التي اعتمدَها كلّ بلد على حدة، منذ ستينيّات القرن الماضي وإلى حين عهدٍ قريب.
ركب المغربُ ناصِيةَ المعسكر الغربي، حيث الاقتصاد المفتوح والحرّية الاقتصاديّة والليبيراليّة السياسيّة، فيما سارت الجزائر على نهجِ البلدانِ الاشتراكيّة في نموذجِها الاقتصادي وعلى مستوى تجميع قوى الإنتاج بين يَدَي الدّولة المركزيّة. اختار الأول طواعيّةً أن يدور في فلك الغرب، واختارت الثّانيّة أن تسير خلف الشرْقِ بمحضِ إرادتها.
بَيْدَ أنّ مستجدَّ الصّحراء (الغربيّة بمنطوق الجزائر، المغربيّة بمنطوقِنا) كان النّقطة التي قوّضت السّكينة القائمة، وأفاضت كأسَ علاقاتٍ لم تكن دائمًا خاليةً من التشنّجات وإن من خلفِ ستار. هذه قضيّة إشكاليّة ليس المقام هنا للتّفصيل فيها. لكنّها أفرزت بمحصّلتها قطعًا للعلاقات الديبلوماسية وإغلاقًا شاملًا للحدود وترسيمًا صارمًا لتأشيرات تنقّل الأفراد والسِّلع والخدمات.
تمثَّل حاصل كل ذلك في انقطاع كامل لآليّات الحوار وانسداد غير مسبوق لآفاق التّواصل، مع إطباق عامّ للمتخيّل المؤامراتي على كلّ حركة أو فعل من لدن هذا الطّرف أو من لدن ذاك. وتمثَّل حاصله أيضًا في سيادة منطق الاستقطاب في محاور متنافِرة وتَسارُع وتيرة التسلّح بمستويات متقدمة جدًّا، وتصاعُد نبرة التّهديد بالحرب، لا سيما بعد تطبيعِ العلاقات بين المغربِ وإسرائيل واعتراف الأميركيّين بمغربيّة الصّحراء.
وتمثَّل حاصله، من ناحيةٍ ثالثة، في اشتغال آلة الحرب الإعلاميّة، بالمباشر الحيّ أو عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، في حملة تشهير متبادَلة لا تختلف كثيرًا عن نموذج ما تعيشه الكوريّتان من احتقانٍ وتوتّرٍ على الحدود.
ما السِّرُّ في استمرار صراعٍ طال أمده ولا تبدو في أفقه بوادر حل؟ ما طبيعة التّنافس الذي تحوّل إلى عداوة واضحة، باتت السِّمة الأساسيّة للعلاقة بين المغرب والجزائر؟
يُقال إنّ الأصْل في العداوةِ تنافس على النّفوذ، أي على من تكون له الرّيادة ومركز الثّقل في تحديد حاضر ومستقبل منطقة شمال أفريقيا. وهذا أمرٌ وارد. لكنَّ العيب هنا عيب مقاربة، إذ يريد كلّ طرف أن يدركَ المبتغى ذاته لكن على حساب الآخر، في وحدته أو في تطلّعه للمستقبل، وإلّا فما يا ترى الضّرر الذي من شأنِه أن يطال مقام الجزائر ومكانتها إن هي اعترفت للمغرب بالسِّيادة على الصّحراء؟ حتّى المسيرة الخضراء التي نظّمها المغرب للصّحراء، وقد كانت تحت السّيطرة الإسبانية، لم تكن موجَّهةً ضد الجزائر ولا ضدّ مصالحها، ولا طالت وحدة ترابها الوطني.
ألَم يكن الأوْلى والحالة هذه، أن ترفع الجزائر يدَها عن “الملف” جملةً وتفصيلًا، ما دامت صيغة حلِّه لا تضرّ لا بمصالحها ولا بمقامها في المغرب الكبير ولا ينزع عنها طموح الرّيادة الذي تنشده؟
في الجزائر مِن الإخفاقات الداخليّة ما يجعل شرعيّة النّظام على المحكّ
فباتت الحاجة مُلحّة إلى تصديرها باختلاق عدو
يُقال إنَّ المسألةَ بالنِّسبة للجزائر هي مسألةُ قانونٍ دولي، وإنَّ تقرير المصير الذي تدفع به تُذكّيه اعتبارات مبدئيّة لا حسابات خاصة. وهذا واردٌ أيضًا، لكنَّ دعم جبهة تطالب بالانفصال عن دولةٍ ذات سيادة هو تجاوزٌ للقانون الدولي، لا سيّما وقد بات مقترح الحُكم الذّاتي الموسّع الذي اقترحه المغرب، صيغة مقبولة لدى العديد من بلدان العالم.
ما يزيد المسألة تعقيدًا أنّ الجزائر ذهبت حدّ رفعِها لقضية الصّحراء إلى مرتبة القضيّة الوطنيّة لديها، ولربما إلى رافدٍ من روافد الشرعيّة لا تكتمل أو تستقيم إلّا بانفصال الصّحراء عن المغرب. يبدو الأمر هنا كما لو أنَّ ثمَّة بالجزائر مِن الإخفاقات الداخليّة ما يجعل شرعيّة النّظام على المحكّ حقًّا، فباتت الحاجة مُلحّة إلى تصديرها أو تصريفها باختلاق عدوٍ خارجي حقيقي أو مفتعل.
ومع كلّ ذلك، لا بدّ هنا من إعادة طرح السّؤال: ما الذي يضيرُ الجزائر في أن تكون الصّحراء جزءًا من المغرب، وأين يا ترى مكمن الضّرر الذي قد يلحق بها؟ تحت سقف الرّد، يمكن للمرء أن يناقِش.
المصدر/ “عروبة 22”