أخبارالرئيسيةثقافة و فن

محمد و سيسي ولعنة الهجرة لفرنسا

مع بداية الستينات فتحت فرنسا فرصا للعمل الفلاحي الموسمي لجني العنب بحقول جزيرة كورسيكا ، تزامنا مع وفرة الانتاج الموجه لمعاصر النبيذ الفرنسي الاحمر ذو الصيت العالمي ، و نذرة اليد العاملة الموسمية اللازمة و بمواصفات خاصة تتمثل في يد عاملة رخيصة و ذات قدرة جسمانية على التحمل ، و غير متشبعة بالحرية الحقوقية والعمل النقابي .كانت وجهة لجان التشغيل الفرنسية الملكفة بالبحث و الانتقاء و التهجير دول شمال افريقيا خصوصا المغرب و بعض الدول الافريقية بالأخص دولتي السينغال و مالي بحكم انتماؤهم الفرنكوفوني و تبعيتهم الاقتصادية في ذلك الوقت لفرنسا .

مع بداية شهر اكتوبر حلت لجان ببعض المناطق المغربية القروية المعروفة بوفرة اليد العاملة خصوصا ممن لها ذراية بجني العنب ، كانت اللجنة تتكون من طبيب فرنسي ” الميسيو بوفوفا” و مساعده و ممثل عن ارباب الضيعات المشغلة ، تجمهر عموم طالبي الهجرة للعمل على مستوى قيادة المنطقة و تكلف المقدمون و الشيوخ بترتيب الصفوف بأوامر من قائد المنطقة ، كما لو ان الجمهور الغفير الحاضر مطلوب للخدمة العسكرية ، تتم المناداة على المرشحين فرادى للحضور امام اللجنة ، فكان الطبيب الفرنسي المفتول العضلات و الغليظ النبرة ، يتفحص كل مرشح بلمس راحة اليدين و الصدر و العضلات و احيانا عضوه التناسلي و مؤخرته و راحة الرجلين ، تم يقوم مساعد الطبيب بعملية الوزن و تسجيل الطول و مراقبة الاسنان ، كأني بهم في سوق للنخاسة او سوق للبهائم ، فرائس المرشحين ترتعد خوفا من صياح المقدمين و الشيوخ بالتزام النظام و من نهرات اعضاء اللجنة التي تتجاوز الكلام الى الدفع و الطرد احيانا ، يأتي دور ممثل المشغل الذي كان يدون المعلومات الشخصية للاشخاص المقبولين مؤقتا في انتظار الفحص الطبي بالاشعة للرئتين ، كان الفرح باديا على كل مقبول اخبر بموعد للفحص بالمستوصف المحلي ، و الخيبة بادية على المرفوضين الذين تبدوا عليهم علامات الحسرة من خلال التوسل لاعوان السلطة ملتمسين دعمهم امام اعضاء اللجنة للالتحاق بالعالم الجديد ، عالم الخلاص للقطيعة الابدية مع الفقر و الحاجة .

جاء دور ” محمد الشياضمي ” الذي كانت معنوياته مرتفعة بفضل دعوات والدته ” لالة مينة ” التي توسلت له بكل صالحي زوايا المنطقة و منحته سكرا يضعه في فمه واشياء وضعت بثوب ابيض يحملها بجيبه من لتحقيق القبول ، كأنما ” محمد ” طفل يلج الكتاب لاول مرة ، فعلت به والدته ما يفعل بأطفال القرية من طرف امهاتهم عند الحاقهم بالدراسة .

بمعنويات مرتفعة اجتاز ” محمد ” الامتحان بتفوق بصمت عليه ابتسامة شيخ القبيلة وطبيب اللجنة بعد ان ختمته “لالة مينة” بدعاء الفتح و الرضى . يوم السوق الاسبوعي التحق ” محمد ” بمستوصف المركز للفحص بالأشعة ، بعد ان نصحه ممرض المركز صديق والده ” الحاج لبكر ” في اليوم الموالي للانتقاء بالتوقف عن التدخين لتكون عملية الفحص سلبية ناجحة .نتيجة الفحص التي تم تسلمها مساء يومه كانت سلبية ، سلمها ” محمد ” للقيادة رفقة الصور الفوتوغرافية و عقود الازدياد لانجاز ” جواز السفر ” .

رتب ” محمد ” كل اموره رفقة من تم قبولهم من منطقته استعدادا للهجرة للعالم الجديد ، اعدت له ” لالة مينة ” الزاد و حقيبة الملابس كانه مهاجر لاداء فريضة الحج .تحدد موعد السفر بعد ان تم إعداد جميع وثائق السفر ، حدد موعد اللقاء ، فاتح مارس بعين البرجة بمدينة الدارالبيضاء.بعد اسبوع من التجمع بالدارالبيضاء ، تم السفر عبر الباخرة من ميناء المدينة في اتجاه جزيرة كورسيكا .رحلة ذكرت ” محمد ” برحلات المغاربة خلال الحرب العالمية الاولى و الثانية للمشاركة الى جانب جيوش فرنسا في صف الحلفاء التي كان يسمعها حكايات من عمه ” سي ادحايم ” الذي شارك في تلك المعارك والتي كلفته بتر ساقه الايسر والذي لم يجبر ضرره من طرف الجمهورية الفرنسية التي حارب دفاعا عن علمها الذي يحمل شعار ” الحرية و المساواة والأخوة ” .تم تجميع العمال الوافدين في معسكرات بالضيعات الفلاحية ، لتتم عملية توزيعهم على اماكن عملهم بتراب الجزيرة الفرنسية ، لسوء حظ ” محمد ” تم عزله عن اصدقائه المغاربة ، كان ضمن مجموعة من الجزائريين و السينغاليين و الماليين ، تم نقل الجميع لتلقي تكوين اولي في جني العنب باحدى الضيعات النموذجية بالجزيرة .تم توزيع العمال على المراقد ، كان سرير ” محمد ” و خزانة ملابسه بجانب عامل افريقي اسمر اللون ، لا يجيد التكلم بالعربية ، لسانه فرنسي ، كانت لغة الاشارة هي وسيلة ” محمد ” في التواصل مع ” سيسي ” السينغالي .بضعة ايام كانت كفيلة بان يربط ” محمد ” المغربي علاقة ب ” سيسي ” السينغالي خصوصا و ان اصوله المسلمة مرتبطة بالزاوية التيجانية ذات الاصول المغربية ، حضي ” محمد ” باحترام زميله الوافد الجديد .بعد دورة تدريبية في تقنية الجني و تعليم مبادىء في اللغة الفرنسية لكون اغلب العمال من فئة الاميين تم الحاق كل فئة من مائة عامل بضيعة فلاحية ، لحسن حظ ” محمد ” ظل رفقة زميله السينغالي.دامت عشرتهما مدة سنة مكنت ” محمد ” من تعلم بعض مفردات التخاطب باللغة الفرنسية بفضل ” سيسي ” الذي تعلم بدوره اللهجة المغربية الى جانب تبادل المعارف حول عادات و تقاليد مسقط راس كل واحد منهما و تقاسم الاخبار عن احوال معيش اسرتيهما عبر الرسائل المتوصل بها والتي كان ” محمد ” يتهجى حروف رسائل عائلته التي كان يكتبها له ابن عمه ” حسن ” وبخط لا يعرفه الا من درس في الجامع .مرت السنة الاولى من عقد العمل و استفاد ” محمد ” و صديقه ” سيسي ” من تجديد العقد لمدة سنة ثانية . منحت ل” محمد ” و ” سيسي” و كباقي من استفاد من تمديد عقد الشغل عطلة سنوية مدفوعة الاجر مع الاحتفاظ بالسكن في مراقد الضيعة.

حصول العمال الموسميين على عقد عمل طويل المدة منحهم حق الاستفادة من بطاقات الاقامة بالتراب الفرنسي و الاستفادة من تعليم مجاني ارتكز على اللغة والحضارة الفرنسية و صرفت لهم منحة من الحكومة الفرنسية لتسهيل الاندماج .انتهت مدة العقد وانتقل كل من الزميلين الى ضواحي باريس ، وبفضل نباهة ” سيسي ” و طيبوبة ” محمد ” تدبرا عملا مؤقتا في احدى مقاولات البناء حيث استقرا في احدى براريك ورش مشروع تتكلف به المقاولة ، حيث عمل المغربي كحارس ليلي و السينغالي حارس بالنهار .

تزامنت الفترة مع فتح مصنع للسيارات بضواحي باريس ، فقدم كل منهما طلبا للعمل تم قبولهما بعد انتقاء اولي خضعا بعده لتكوين في ترتيب العجلات المطاطية للسيارات و الحصول على عقود عمل دائمة بالشركة. حصل ” محمد ” على سكن بضاحية باريس بالقرب من مصنع السيارات بحي للمهاجرين وتدبر صديقه ” سيسي ” منزلا بمنطقة مجاورة مع أحد اقاربه .بعد مرور خمس سنوات زار ” محمد ” مسقط راسه لاول مرة بعد ان جمع مبلغا ماليا محترما اقتنى به مسكنا بمركز جماعته القروية استقر به والده الطاعن في السن و امه ” لالة مينة ” و اخوه ” حميد ” و عقارا فلاحيا تكلف بحراتثه عمه ” سي ادحايم ” بعد ان تزوج ابنته ” لالة زهرة “.

استفاد ” محمد ” من اجراءات التجمع العائلي و استقدم زوجته ” لالة زهرة ” بعد سنة و نصف من زواجهما لتقيم معه بضواحي باريس ، حيث عانت الزوجة مرارة صعوبة الاندماج خصوصا و انها كانت حاملا في شهرها السادس .كانت زيارة ” سيسي” لبيت ” محمد ” رفقة زوجته ابنة احد اقاربه و الفرنسية المولد تخفف على ” لالة زهرة ” التي ساعدها مستواها الدراسي على سهولة التواصل مع ” اميناتو ” زوجة ” سيسي” .انجبت زوجة ” محمد ” مولودا اختير له اسم ” الياس ” احتفل بعقيقة ميلاده خلال عطلة الصيف بالمغرب .اندمج ” محمد ” في بلد المهجر وتحسنت ظروفه الاجتماعية واستقدم اخاه ” حميد ” للعمل بفرنسا بعد ان تدبر له عقد عمل في مجال التجارة باحد الاسواق التي يدبرها مغربي من منطقة سوس . كبر ” الياس ” والتحق بالمدرسة والحقت اخته ” نسرين ” بروض الاطفال و تدبرت ” لالة زهرة ” عملا باحدى الجمعيات المهتمة بقضايا الهجرة و الاندماج .

تقدم ” محمد ” في السن و احيل على التقاعد براتب مريح و تغطية صحية اساسية جعلته في وضع اجتماعي لاباس به هو واسرته الصغيرة ” لالة زهرة ” المستشارة الإجتماعية بمركز الاستقبال و الاندماج المخصص للمهاجرين من دول شمال افريقيا و كذا ” الياس ” ذو العشرين سنة و الذي تدبر عملا بالمكتب الوطني للسكك الحديدية بباريس بعد حصوله على اجازة مهنية و اخته ” نسرين ” الطالبة بكلية الطب و الصيدلة بباريس .

ظل ” محمد الشياضمي ” على علاقة مع صديقه ” سيسي ” المحال بدوره على المعاش حيث كانا يلتقيان بمقصف احد الاندية العمالية بالحي المجاور لسكناه ، لقاءات يعيدان من خلالها نوستالجيا الزمن القديم و معاناة صعوبة الاندماج في العالم الجديد.كبر اولاد ” محمد ” و اولاد ” سيسي ” وظل كل واحد منهما يسافر الى مسقط راسه كل سنة و انقطع اولادهما على زيارة مسقط راس ابويهما لما تجاوزوا السن الخامسة عشرة ، ظل ” محمد ” رفقة ” لالة زهرة ” و ” سيسي ” بمفرده يزورون كل سنتين بلد المولد .ثقافة الفردانية و الحرية الشخصية و قوانين الجمهورية تكلفت نيابة عن ” محمد ” و ” لالة زهرة ” بتربية ” الياس” و ” نسرين ” اللذان تشبعا بمبادىء حقوق الإنسان و الحرية الغربية افقداهما مبادىء القيم المجتمعية الاصيلة لهويتهما المغربية بسيادة ثقافة الاغتراب المبنية على نكران الهوية والتمرد على سلطة الاسرة و اساليب التربية التي تجرمها النواميس الوضعية للجمهورية الفرنسية.

اضحى ابناء المهاجرين انطلاقا من الجيل الثالث فما فوق قنابل موقوتة تحكمها سلوكات التمرد و الرفض التي غداها اليمين المتطرف المتشبع بالعنصرية والعرقية ثقافة و سلوكا و ممارسة سياسية زادت من حدثها ما عرفته بلدان الهجرة خصوصا العربية و الافريقية من اضطرابات خلال حركات الربيع العربي و الانفلاتات الامنية بافريقيا جنوب الصحراء .كل هذه التجاذبات المجتمعية ببلاد المهجر كانت موضوع نقاش عمومي بصالونات باريس و مقاصف أندية متقاعدي الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط الذين ضلوا اوفياء لهوياتهم الاصلية .صراع الاجيال غدا تباعد الهوة بين الابناء و الاحفاد و الآباء و الاجداد من جهة و الاوطان و الهوية و الانتماء من جهة أخرى .اضحى الاقصاء المجتمعي و بروز حركات عدائية انعشها التمييز بين العرق الاصلي و المستهجن والذي وجد تمثله في السياسات و الخطابات العمومية يندر بانفجار مجتمعي قد ياتي على الاخضر و اليابس في بلد شعاره ” المساواة و الحرية و الإيخاء ” .عزلة ” محمد ” و معه ” لالة زهرة ” و ” سيسي ” و من في شاكلتهم جعلهم في مفترق الطرق يلعنون الهجرة التي دفعتهم الى عناق المجهول و التضحية بالمستقبل و فلذات الاكباد و توحي بصراع ابدي بين ابناء الوافدين و ذوي العرق الاوربي و مجالات تعسفت عليها العدالة المجالية و البشرية بلغة دعاة التحرر وورثة صكوكهم .

الجديدة في 6 يوليوز 2023

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button