من اللافت أن يلتزم المغرب الصمت إزاء الانقلاب في النيجر، بعد مرور نحو أربعة أيام على حدوثه والإطاحة بالرئيس محمد بازوم، بالرغم من تنديد أبرز حلفاء الرباط الغربيين به، وبالرغم من ان الأمور تسير نحو التمكن لفائدة الانقلابيين، بعدما اعتقد البعض أن المحاولة الانقلابية ستفشل لعدم تأييد طائفة من الجيش والأمن للانقلابيين.
صمت الرباط لحد الساعة عن عدم إصدار أي بيان يوضح موقفها من الأحداث في نيامي العاصمة النيجرية، بالرغم من الأهمية الاستراتيجية لهذا البلد الإفريقي المتواجد في منطقة الساحل المعروفة بتواجد الجماعات المتطرفة بكثافة، وبالرغم من التواجد المغربي المهم في النيجر ولاسيما على صعيد الاستثمارات، واستمرار المملكة المغربية في التتبع عن كثب للتطورات وعدم إعلانها لأي موقف بعد انقلاب جنود من الحرس الرئاسي على الرئيس محمد بازوم واحتجازه في القصر الرئاسي في العاصمة نيامي وأعلنوا عزله وإغلاق الحدود وفرض حظر التجوال، لا يعني غياب الرباط عن محيط لها موطئ قدم راسخة بها، وإنما هو صمت يشي برغبة الساسة المغاربة في عدم المجازفة برصيد دبلوماسي واقتصادي بُني منذ سنوات من العمل الجاد الذي قاده ملك البلاد.
ومع أنه معروف على الدبلوماسية المغربية هدوؤها وعدم تسرعها في إعلان مواقف المملكة إزاء مختلف الأحداث الدولية حتى تكتمل الصورة، ولكن على الأقل مقارنة بمواقف سابقة في بلد مجاور للنيجر هو مالي، خلال انقلابين متتاليين في سنتي 2020 و2021، حيث سارعت الخارجية المغربية خلال ساعات فقط لرفضها الانقلابين والمطالبة بالعودة إلى الشرعية والمؤسسات، فإن ما يمكن للمتتبع اليوم أن يفسر به صمت الرباط هو وجود معطيات دولية مستجدة على الساحة، تجعل المغرب يتريث أكثر ما يمكن قبل أن يعلن موقفه.
من هذه المعطيات التي تجعل المغرب يلتزم الصمت لحد الساعة إزاء هذه التطورات، أن النيجر تعتبر القلعة الأخيرة للتواجد الفرنسي بعدما انسحبت قواتها من أكثر من بلد إفريقي، وآخرها مالي وبوركينافاسو وأن أي نجاح لهذا الانقلاب قد يحمل إلى الحكم في الغالب معارضين للتواجد الفرنسي خاصة أن الرئيس “بازوم” عرف عليه أنه حليف باريس، وهو ما يجعل الأخيرة تفقد آخر تواجد لها في منطقة الساحل والصحراء وغرب إفريقيا، وبالنتيجة يفسح ذلك المجال للتواجد الروسي عبر مجموعة “فاغنر” كما حدث مع كل من مالي وبوركينافاسو. وهذا الوضع قد يخدم مصالح المغرب.
وهناك مؤشر طرأ حديثا وفي مساء يوم أمس الجمعة، أي ثلاثة أيام على الانقلاب، حيث لا يمكن اعتبار تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاديا، خلال قمة روسيا-إفريقيا الملتئمة يومي 27 و28 يوليوز بسان بطرسبورغ، عندما أكد أنه “يرغب في تعزيز العلاقات الروسية المغربية ومواصلة الزخم الذي تم إطلاقه خلال زيارة الملك محمد السادس إلى روسيا عام 2016، بالتزامن مع رفض موسكو للمرة الثانية على التوالي استدعاء البوليساريو للقمة الروسية الإفريقية! هذا إن كان يدل على شيء فعلى رغبة روسيا في الحفاظ على المملكة المغربية كـ”شريك استراتيجي”، وفق مخرجات الزيارة الملكية لموسكو في العام 2016، وهو ما تكرس خلال قمة سان بطرسبورغ وعكسته تصريحات الجانبين، حيث من جهتها اعتبرت الرباط على لسان رئيس الحكومة عزيز أخنوش أن هذه المناسبة كانت سانحة لـ”إرساء شراكة استراتيجية معمقة” وأكد “التزام المغرب الدائم” بعلاقته مع مختلف شركائه الاستراتيجيين.
هذا التذكير من طرف كل من الرابط وموسكو بعلاقة الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، والتي يبدو أنها لم تتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا المتواصلة، رغم مواقف المملكة التي عبرت عنها صراحة داخل المنتظم الدولي والرافضة لتهديد سيادة وأراضي الدول، بما فيها أوكرانيا طبعا، يأتي (التذكير) في سياق تطورات في محيط المغرب الإفريقي، من خلال انقلاب النيجر، وقبله العديد من الانقلابات والتطورات خاصة في منطقة الساحل والغرب الإفريقي، كان من نتائجها انسحاب فرنسا من أكثر من دولة، لفائدة روسيا عبر ذراعها العسكرية “الخاصة” مجموعة فاغنر.
هذا يعكس القلق والتوجس الفرنسي من الانقلاب في النيجر وأيضا الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سارع الجانبان إلى التنديد به والدعوة إلى الإفراج عن الرئيس المطاح به والعودة إلى الوضع الدستوري للبلاد؛ فإذا كانت فرنسا تخشى من فقدان آخر قلعة لها بمنطقة الساحل والصحراء والغرب الإفريقي، بعدما انسحبت مضطرة من بوركينافاسو ومالي، فإن واشنطن هي الأخرى قلقة بشأن مصير القاعدة العسكرية الوحيدة لحلف “الناتو” في الغرب الإفريقي المتواجدة على أرض النيجر، والتي تخول للولايات المتحدة الأمريكية مراقبة ورصد تحركات الجماعات الجهادية العنيفة المنتشرة بكثافة في دول منطقة الساحل وغرب إفريقيا بما فيها النيجر، مما يجعل توجس الأمريكيين من فقدانهم مركز المراقبة هذا في هذا البلد قد يمكن الروس من التوسع أكثر ولاسيما في منطقة غرب إفريقيا المطلة على ساحل المحيط الأطلسي.
هذا القلق الفرنسي الأمريكي الحليفان الرئيسيان للمغرب من احتمال فقدان دولة النيجر كخلفية عسكرية لهما لفائدة التواجد الروسي، يفرض بحكم طبيعة الأمور على الرباط أن تراقب الوضع، وأن لا تتسرع في تأييد أو رفض هذه المحاولة الانقلابية، وأن تتريث في تبني نفس مواقف كل من باريس وواشنطن المنددتان، مثلما حدث في مالي سابقا، وإن كان موقف المملكة حينئذ لم يخرج عن حدود اللباقة الدبلوماسية من خلال استعمال مصطلحات معتدلة من قبيل “الرفْض” و”الانشغال” و”عدم استعمال القوة للوصول إلى السلطة”، بعيدا عن مفردات “الإدانة” و”الشجب” وغيرهما ! وذلك بالرغم من تأييد المغرب السابق بل ومساهمته في التواجد العسكري الفرنسي في هذا البلد، ولعل ذلك ما جعل المملكة تحتفظ بعلاقات طبيعية مع الحكام الجدد في مالي الذين وصلوا إلى السلطة بانقلاب، ولم تمس مصالح المغرب الاقتصادية هناك.
وما يزكي أيضا هذا الاعتقاد بأن المملكة لا تريد المغامرة بتأييد أو رفض محاولة الانقلاب التي تجري في النيجر، هو أنها منذ سنوات وهي تبني علاقاتها مع دول هذه المنطقة الاستراتيجية والتي وصلت إلى مستويات متقدمة، سواء من حيث الاستثمارات المغربية هناك أو على صعيد تبني دول المنطقة للأطروحة المغربية حول سيادته ووحدة أراضيه، ما يجعل الرباط تحاول النأي بنفسها عن التدخل في الشأن الداخلي للدول، ما يتناسق في الأصل مع أبرز مبادئ وأسس الدولة المغربية فيما يتعلق السياسة الخارجية.
أخيرا يبدو أن موقف التريث ومتابعة الأحداث بهدوء من طرف الدولة المغربية، إزاء ما يجري في النيجر المتواجدة في منطقة استراتيجية ملتهبة، يأتي في ظل تطورات دولية وإقليمية؛ منها تواصل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يجعل العالم يسير في اتجاه إعادة ترتيب تحالفات وأجندات الدول بما فيها المغرب، الذي تبرز مواقفه في السنوات الأخيرة، ولاسيما اتجاه بعض الحلفاء التقليديين كفرنسا، أنه ما عاد مقتنعا بعلاقات اللاتكافؤ معها وأنه يسعى لإعادة صياغتها تحت قاعدة رابح-رابح وبالندية المطلوبة. ولعلها فرصة مواتية للمغرب ليوسع نفوذه إفريقيا، في ظل تزايد التراجع والتقهقر المثير لفرنسا المستعمِر السابق بعدد من الدول الإفريقية، وخاصة في منطقة الساحل الاستراتيجية، في مقابل تكاثف الحضور الروسي في القارة، ما يجعل المغرب يعمل ما بوسعه على عدم فقدان حلفائه، سواء الأفارقة أو حتى الروس، الذين بالرغم من حربهم ضد أوكرانيا وإدانة المنتظم الدولي لذلك بمشاركة المغرب وبدبلوماسية استثنائية وأكثر اعتدالا، إلا أن الرباط حافظت على علاقات جيدة بموسكو وبالمعسكر الغربي.