أخبارالرئيسيةثقافة و فن

الحياة دون تواجد الوالدين تفقد المكان معناه

ترعرعت ” بديعة ” في حضن اسرة مكونة من اب يعمل مستخدما باحدى مصانع تصبير السمك و ام تشتغل منظفة باحدى المصحات الخاصة بالمدينة التي قدم اليها ” ادريس ” بعد ان عقد قرانه على ” مليكة ” بضواحي مراكش .
كانت ” بديعة ” وحيدة الاسرة مما جعلها تحظى بمعاملة خاصة في تربيتها و تلبية حاجياتها وكانت لها مركزية متفردة في ميزانية الاسرة و مشترياتها و حتى في اهتماماتها ، لاشيء في البيت يعلو على ” بديعة ” و هي لم تتجاوز سنها الخامسة حيث كانت تتعلم بروض للاطفال يعتبر من ارقى الرياض بالحي وكأن كل من ” ادريس ” و ” مليكة ” يمنيان النفس لتحقيق ما ضاع لهما في صباهما من خلال فلذة كبدهما ” بديعة ” .
في سنها السادسة ، الحقت المذللة ” بديعة” بالمدرسة الابتدائية بالحي ، حيث كانت متميزة في كل شيء بحكم العناية الابوية المفرطة ، تفوقت في دراستها بفعل التتبع و المراقبة المستمرة لوالدتها ” مليكة ” و اعجاب استاذتها ” امينة ” بذكائها و نباهتها المميزة .
اجتازت التلميذة المجدة المرحلة الابتدائية بتفوق ملحوظ والتحقت بالتعليم الاعدادي باعدادية البنات ” حليمة السعدية ” بالحي الراقي بالمدينة بمحاداة المصحة الخاصة مقر عمل والدتها ” مليكة ” ، لاقت نفس الإهتمام بالاعدادية ، خصوصا مع انتخاب والدتها بالمكتب المسير لجمعية أباء و اولياء تلميذات الاعدادية و نشاطها المميز في حظيرة الجمعية .
مع تقدم ” بديعة ” في العمر و الدراسة ، يزداد امل الاسرة فيها لتحقيق ما ضاع من الايام الخوالي ، انخرطت التلميذة الجميلة خلقا و اخلاقا و دراسة في انشطة المؤسسة التي تدرس بها خصوصا خلال نهاية السنة الدراسية بالاعدادية حيث مثلت الاعدادية خير تمثيل بالكثير من الانشطة الثقافية المنظمة بالمدينة .
انتقلت ” بديعة ” الى السلك الثانوي بالشعبة العلمية ، واصلت الطالبة دراستها بتفوق ملحوظ وبدعم من والديها اللذان خصصا لها ميزانية للدعم لسد النقص الحاصل في بعض المواد العلمية .
اجتازت ” بديعة ” امتحانات البكالوريا وحققت نجاحا متميزا مكنها من ولوج مدرسة العلوم التطبيقية ، لكن خلال نفس السنة ، توصلت بجواب التسجيل باحدى كليات الطب و الصيدلة بجمهورية روسيا ، وحصولها على منحة دراسية ، امام اصرار والدتها ورفض الوالد ، استقر رايها على السفر لروسيا لمتابعة دراستها في مجال الطب .
انتقلت ” بديعة ” الى الديار الروسية وبعد سنة من تعلم اللغة الروسية ،التحقت بصفوف دراسة العلوم الطبية التي تفوقت فيها كالمعتاد على غرار مسارها الدراسي السابق .
بعد ثلاث سنوات غياب عن والديها ، قررت خلال السنة الرابعة زيارة المغرب خصوصا بعد علمها ان والدتها ” مليكة ” تعاني من مرض الربو الحاد بفعل الافراط في استعمالها لبعض المواد الكيماوية خلال عملها كمنظفة بالمصحة الخاصة لمدة طويلة الشيء الذي دفع بها اضطرارا للتوقف عن العمل بعد تقديم ملفها الطبي الى ادارة المصحة و مفتشية الشغل و الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي .
كانت لزيارة ” بديعة ” لمسقط راسها الاثر الكبير على نفسيتها ، بسبب الغياب الذي دام مايزيد على الثلاث سنوات حيث تغيرت الكثير من الاشياء ببيت الاسرة ، تدهور صحة الام و تراجع صحة الوالد الذي كلف بحارسة بوابة معمل تصبير السمك نهارا بعد ان منعته قواه البدنية عن الاستمرار في شغله الاصلي بالمعمل ، غابت البشاشة عن كل شيء بالمنزل بغياب فراشته التي اصبحت سحنتها تطغى عليها خشونة روسية .
اعادت ” بديعة ” ترتيب الكثير من الاشياء بالمنزل ، حتى غرفتها ظلت على مدى مدة غيابها كما هي ، غطى الغبار كل شيء و حتى غزل العنكبوت اخد نصيبه من الفضاء الحميمي لطبيبة المستقبل ، حيث ان ” مليكة ” الام منعها الشوق من ولوج غرفة ” بديعة ” للتنظيف حتى لا تسابقها دموع الشوق .
بعد شهر غادرت ” بديعة ” عائدة الى روسيا لمتابعة دراستها ، اعدت لها ” مليكة ” حقيبة مليئة بكل ما تشتهيه من الحلويات و التوابل و كل شيء تعده الامهات المغربيات لفلذات اكبادهن .
فارقت الطالبة الجامعية البيت بالدموع كأنما تغادر بيت مأثم على نحاب الوالدة وكلامها المؤثر ” سيظلم البيت بعد رحيلك يا ابنتي ” .
بعد سنة كاملة ، عرفت دراسة ” بديعة ” اضطرابا بوقع ما تتوصل به من اخبار على صحة والديها التي عرفت تدهورا في غياب من يرعاهما .
فاقم ظهور جائحة كورونا الأمور خصوصا مع الاجراءات الاحترازية في كل بقاع العالم و خصوصا روسيا و الدول المجاورة ، اغلاق المجالات الجوية حال دون زيارة ” بديعة ” لوالديها .
مع انتشار وباء كوفيد 19 بالمغرب ، اصيب والد ” بديعة ” بنزلة برد حادة ، بعد زيارته للمركز الصحي بالحي تبين انه مصاب فيروس كورونا وكذلك ” مليكة ” المخالطة له من خلال التحاليل السريعة التي اجربت لهما ، لازم الزوج و الزوجة البيت بعد حصولهما على الادوية اللازمة لبروتوكول العلاج المعتمد من طرف وزارة الصحة .
تطورت حالة ” مليكة ” الصحية بحكم انها تعاني من الربو الحاد ، تم نقلها للمستشفى للإستفادة من التنفس الاصطناعي ، لكن حالتها المرضية عجلت بوفاتها .
قامت المصالح المحلية بكل الاجراءات اللازمة مع ” ادريس ” لدفن جثمان المرحومة ” مليكة ” .
كان ” ادريس ” يماطل في تبليغ الخبر لابنته ” بديعة ” التي اصبحت تتواصل معه عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي الدولية ، وكان كل مرة يراوغها بكون امها مشغولة او انها خارج البيت او ان هاتفها الشخصي ضاع منها .
بعد مدة انقطعت اخبار عائلة ” بديعة ” عنها ، حتى الوالد اصبح هاتفه خارج التغطية ، كادت تجن ، بفعل ضغط الدراسة خصوصا باعتماد وسائط الدراسة عن بعد بروسيا ، انقطاع التواصل مع الاسرة و غلق المجالات الجوية الدولية ، فترة عسيرة عاشتها طبيبة المستقبل و محققة امل الام التي قضت عمرها بجانب ذوي الوزر البيضاء من اطباء و ملائكة الرحمان كمنظفة لقاعات العلاج و العمليات بمصحة الشفاء الخاصة بالمدينة .
حاولت مرارا ” بديعة ” الاتصال بمعمل تصبير السمك الذي يشتغل به والدها و كذلك الإتصال بالمصحة الخاصة التي كانت تعمل بها والدتها لاستقاء الاخبار عن والديها لكن دون جدوى .
بعد مرور ثلاث سنوات قضتها ” بديعة ” كأنها تقضي حكما بالإقامة الجبرية ، اسعفها في ذلك العزاء حصولها على شهادة التخرج من كلية الطب و انها ملزمة بقضاء فترة تدريبية باحدى المستشفيات الجامعية ، مع تخفيف الاجراءات الاحترازية و فتح المجالات الجوية جزئيا ، قررت ” بديعة ” تكوين ملف التدريب وارسلته لإحدى المستشفيات الجامعية المغربية عبر القنوات الرسمية لقضاء فترة التدريب بالمغرب الى جانب اسرتها .
قبول ملفها بالمستشفى الجامعي بالمغرب و الموافقة على سفرها لمسقط راسها جعلها تطير فرحا و خفف عليها معاناتها النفسية التي جاوزت الثلاث سنوات في الغربة و تحت ضغط انقطاع اخبار الاسرة و وقع الاجراءات الاحترازية للوباء اللعين .
انتقلت ” بديعة ” الى مطار موسكو الدولي ، وان الرحلة الى مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء موعد وصولها على الساعة الرابعة صباح احدى ايام الآحاد صيفا ، استقلت سيارة الاجرة الى محطة القطار ، وركبت القطار في اتجاه المدينة حيث بيت الاسرة ، على طول مسار السكة الحديدية مرورا بمحطات الوقوف كانت ” بديعة ” الطبيبة شاردة شرودا كليا لا يقطعه سوى جابي القطار عندما يراقب تذاكر السفر .
وصلت ” بديعة ” الى بيت الاسرة قبيل الظهر ، قبل انزال اغراضها من سيارة الاجرة ، توجهت لباب البيت ، ضغطت مرارا على زر الجرس ، لا مجيب ، عاودت الضغط ، اثار انتباها غياب رنين الجرس و فاجئها انتزاع عداد الكهرباء الخاص بالمنزل ، أصيبت بدوران مصحوب بغثيان خصوصا وان فرحتها لقاء العائلة انساها حتى تناول و جباتها الاعتيادية سوى قنينة الماء التي اصطحبتها معها و لوازم التطهير و كمامات صحية ووثائق السفر بحقيبتها اليدوية .
كانت الصاعقة الكبرى لما فتحت نافذة منزل الجيران و نادتها الجارة ” لالة كلثوم ” دون مراعاة لحالتها النفسية ” الباقية في راسك ابنتي الواليدة و الوالدة الله يرحمهم و يوسع عليهم ” ، سقطت ” بديعة ” ارضا مغمى عليها واستيقضت على تواجدها بسرير المستشفى و اغراضها بجانبها .
لم تبارح الدموع عينيها ، لعنت اليوم الذي غادرت فيه المدينة في اتجاه روسيا و لعنت اليوم الذي لم تسعف والدها في رأيه ولعنت نفسها و الطب و روسيا و كورونا وكل الاشياء.
ظلت في المستشفى الذي ستدرب به يومين دون علم طواقم المستشفى انها طبيبة ، غادرت المستشفى في اتجاه احدى الفنادق بالمدينة حيث حجزت غرفة لها في انتظار استقرار حالتها النفسية .
اتصلت بصاحب المنزل الذي كانت تقطنه الاسرة ، سلمته مفاتيح المنزل التي توصلت بها قانونيا ، حيث تنازل عن مستحقاته المترتبة عن واجبات الكراء رغم اصرار ” بديعة ” على ادائها .
تراجعت ” بديعة ” عن تداريبها بالمستشفى الجامعي بالمغرب و حجزت بعد اسبوع على متن طائرة لموسكو ، حيث تدربت بمستشفى الكلية الجامعي هناك و بعد التخرج سجلت بهيئة الاطباء بالبلد المضيف واصبحت تمارس بجناح طب الرئةو الجهاز التنفسي بعد دراستها التخصصية.
و ادركت حينها ” بديعة ” ان الحياة بدون تواجد الوالدين تفقد حب المكان كل معانيه ..
الجديدة في 2022/11/13

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button