أخبارالعالم

الجذر التاريخي للأزمة الروسية – الأوكرانية

**د. هشام برجاوي

مستعينة بالإعلام والتكييف الثقافي بمختلف روافده (وخصوصا : السينما، التعليم، الفن … ) تُحاوِلُ بعض التيارات في الغرب، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مؤخرا، ب”حرب مدنية بين-أوروبية”، “اختلاس” أو “استصغار” الدور الروسي في إيقاف المد النازي،  وصناعة منظمة الأمم المتحدة،  بوصفها أداة مُمَأْسَسَة ودائمة، لضمان الأمن والسلم العالميين، وليس الأمن والسلم الأورو-أمريكيين فقط.

 حَرِّي بالذكر، في هذا الصدد، أن النخبة الحاكمة في روسيا تشدد، باستمرار، على ضرورة إيلاء القدر الملائم من الأهمية لأمن روسيا، داخليا وخارجيا، ولدورها في استتباب العلاقات الدولية وتوازنها، وذلك قياسا إلى وضعها الاعتباري والمادي كقوة

نووية وكثاني أقوى جيش في العالم وكعضو دائم في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة.

وباستحضار الجذر التاريخي للعملية العسكرية الدائرة حاليا في أوكرانيا، سنتذكر أن الاتحاد السوفياتي (علما أن محركه الأساسي وقرصه الصلب يتجسمان في روسيا) قد ساهم، بصورة حاسمة ومؤثرة، في انتصار الحلفاء إبان الصراع الكوني الثاني، وأبدى الجيش الأحمر بسالة مائرة لانتشال “القارة العجوز” من الهيمنة الهتليرية التي استفحلت، بسرعة، في مفاصل أوروبا بشقيها الشرقي والغربي. 

وابتداء من تسعينات القرن الماضي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انخرطت روسيا في مسار تغيير سياسي مستمد من خصوصياتها الحضارية والثقافية، مما دَفَعَ قطاعا من الأخصائيين في علم السياسة إلى تكييف تشخيصهم وتأويلهم للانتقال السياسي الروسي، من خلال إعادة بناء وتعريف باراديغم “الديمقراطية المُوجَّهَة” La démocratie dirigée.

موازاة مع الانخراط في مسلسل انتقالي، كرست موسكو تشبثها بمبدأ المساواة في السيادة وآلية الأمن الجماعي Le mécanisme de sécurité collective المنصوص عليهما في ميثاق الأمم المتحدة.

 وهذا ما تبدى، جليا، في موقف روسيا إبان غزو العراق سنة 2003، عندما كذب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش حول حيازة الرئيس العراقي صدام حسين أسلحة دمار شامل، ثم أقدم على “سحق القانون الدولي تحت حذائه” معتديا على العراق، وملقيا به إلى دوامة من الحرائق الطائفية والاثنية الشعواء التي لم يهدأ أُوَارُها حتى يوم الانسانية هذا.

إن توازن القوى ومحاور الاستقطاب هو استقرار للوضع الدولي ومنع لأي محور من الإتيان بأفعال، إرادية أو صادرة عن استفزاز متكامل الأركان، تَنتُج عنها “أضرارا جانبية مؤلمة” Dommages collatéraux .والحالة الثانية، أي الرد على استفزاز ناضج ومتناسق، تنطبق على ما جرى للنظام الروسي، إذ حاول حلف الناتو، عن طريق السعي نحو ضم أوكرانيا، وضع أسس عملياتية لإطلاق فعل عسكري أو، على الأقل، التلويح به ضد روسيا.

و لا مندوحة في أن نستحضر، ضمن هذا السياق المتشنج ومفرط الحساسية، أزمة صواريخ كوبا خلال خمسينات القرن المنصرم.

تاريخئذ، هدّد الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي باللجوء إلى السلاح النووي، وبادر إلى تشديد الخناق الاقتصادي والغذائي على كوبا، ردا على سعي الاتحاد السوفياتي نحو توطين منصات إطلاق صواريخ فوق أرض كوبا المتاخمة، حد الاختناق، للحلم الأمريكي The american dream وهو، يومئذ، في طور التشكل والانتشار. 

أما “الدمقرطة الإجبارية”، فقد تابع العالم نتائجها الوخيمة في أفغانستان، حيث، بعد عشرين سنة من الحضور العسكري الأمريكي الثقيل هناك، اكتشف القاطن حديثا في البيت الأبيض الرئيس جو بايدن، “هكذا … فجأة ودون سابق إنذار”، أن الشعوب هي التي يجب أن تقرر في شكل ومضمون أنظمتها الحاكمة، امتثالا لمبدأ “الاستقلالية الدستورية” Le principe de l’autonomie constitutionnelle المعتد به في ميثاق الأمم المتحدة، فأقدم على سحب قواته، وترك أفغانستان، مجددا، فريسة سهلة لحركة طالبان.

وكلنا نتذكر مشهد كبار مسؤولي الحكومة الأفغانية المدعومة من البيت الأبيض وهم يوقفون أداء شعائر الصلاة ويفرون نحو المطار كي ينجو بأنفسهم من السيطرة السريعة لطالبان على مفاصل الحكم.

**باحث في العلاقات الدولية.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button