تقارير وملفات

المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب: تداعياتها على السباق الانتخابي والاحتمالات

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

شهد يوم الخميس، 27 حزيران/ يونيو 2024، وقائع أول مناظرة رئاسية بين الرئيس الحالي والمرشح الديمقراطي، جو بايدن، والرئيس السابق والمرشح الجمهوري، دونالد ترامب، من بين اثنتين اتُّفِق عليهما بين حملتَي المرشَّحَين الرئاسيَّين، على أن تُجرى المناظرة الثانية في 10 أيلول/ سبتمبر 2024. وقد جاءت نتائج المناظرة الأولى سلبية بالنسبة إلى الديمقراطيين؛ إذ أثار التشتت الذهني والوهن البدني اللذان بدا عليهما بايدن خلالها حالة من الذعر بينهم، وأطلق نقاشًا حول قدرته على الاستمرار في السباق الرئاسي وتأثير ذلك في سلوك الناخب الأميركي، قبل أقل من شهرين من المؤتمر الوطني للحزب في شيكاغو في آب/ أغسطس 2024، وقبل أربعة أشهر من إجراء الانتخابات العامة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وعزّز أداء بايدن الباهت وتعبيرات وجهه التائهة، وتلعثمه المتكرر، وعجزه عن الرد بقوة على المزاعم والأكاذيب التي أطلقها ترامب، شكوك الناخبين الأميركيين في قدرات الرئيس البالغ 81 عامًا. وعلى الرغم من أن ترامب يصغر بايدن بـ 3 سنوات فقط، فإنه بدا خلال المناظرة أكثر تماسكًا ووعيًا، وإن كان يفتقر إلى الحجج المنطقية والصدق في نقاشاته[1]. وقد اعتبر عدد من مسؤولي الحزب الديمقراطي أداء بايدن الأسوأ في تاريخ المناظرات الرئاسية الأميركية، منذ أن بدأ بثها تلفزيونيًا في عام 1960[2]. ووفقًا لبعض استطلاعات الرأي التي أُجريت بعد المناظرة، فإن 3 من 4 ناخبين أميركيين، ونحو نصف الديمقراطيين، لا يعتقدون أن بايدن ينبغي أن يستمر مرشحًا عن الحزب الديمقراطي. وفي المقابل، يرى نصف الناخبين الأميركيين وأغلب الجمهوريين أن ترامب بدا أكثر تمتعًا بالقدرة الإدراكية اللازمة ليكون رئيسًا[3].

أولًا: فرصة بايدن الضائعة

على الرغم من أن القواعد التي أُقِرت للمناظرتين تميل إلى مصلحة الديمقراطيين، فإن بايدن عجز عن الاستفادة منها. وعلى عكس التقليد المتبع منذ عام 1988، والذي كانت تشرف بموجبه “لجنة المناظرات الرئاسية” غير الحزبية على تنظيمها[4]، فقد أُوكلت المهمة في انتخابات 2024 إلى الشبكتين الإخباريتين سي إن إن، وإي بي سي. وكانت المناظرات الرئاسية تجري في السابق في أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر بمعدل ثلاث مناظرات، باستثناء عام 2020، حيث جرت مناظرتان فقط من جرّاء جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). وكانتا، أيضًا، بين ترامب الذي كان رئيسًا في ذلك الوقت، وبايدن الذي كان ينافسه. ويصب تقليل عدد المناظرات وتقديم وقتها في مصلحة الديمقراطيين؛ ذلك أن هذا التقليل يُعفي بايدن من الضغط النفسي الذي يترتب على مثل هذه المناظرات، إذا ما أخذ في الاعتبار سنّه وقدراته الذهنية. ثمّ إن تبكيرها قد يُتيح له مجالًا لإصلاح أيّ ضرر قد يترتب على أدائه فيهما قبل الانتخابات العامة. وقد استفاد بايدن كذلك مِن عدم السماح لجمهور مختار بحضور المناظرة، ومِن كتم صوت الميكرفون للمرشح الذي لا يتحدث أيضًا حتى لا يقاطع أحدهما الآخر؛ وهما أمران كانا سيصبان في مصلحة ترامب الذي يملك قدرة أكبر على التفاعل مع الجمهور وتحريكه، فضلًا عن أنه معروف بمقاطعاته المتكررة لخصومه والإهانات التي يوجهها إليهم، كما فعل في مناظرات الانتخابات الجمهورية التمهيدية عام 2016، وفي المناظرات الرئاسية مع المرشحة الديمقراطية، عام 2016، هيلاري كلينتون، ثمّ مع بايدن عام 2020. ولم يُسمح بوجود مستشارين لكلا المرشَّحَين في قاعة المناظرات، بحيث يمكنهما اللجوء إليهما في فترات الاستراحة، ولم يُسمح لهما أيضًا بجلب ملاحظات مكتوبة مسبقًا.

بدا واضحًا خلال المناظرة أن بايدن أضاع فرصة كبيرة لجعل الانتخابات استفتاءً على شخص ترامب الذي أُدين، في أيار/ مايو 2024، في مدينة منهاتن في نيويورك، بأربع وثلاثين تهمة جنائية في قضايا احتيال ضريبي ومخالفة قوانين التمويل الانتخابي عبر الدفع من أموال الحملة الانتخابية لممثلة إباحية من أجل “شراء صمتها” عن علاقة غير مشروعة بينهما؛ حتى لا تؤثر في فرصه في الانتخابات الرئاسية عام 2016. ولا يزال ترامب يواجه ثلاث قضايا جنائية أخرى، فدرالية وعلى مستوى الولايات، أهمها التحريض على اقتحام مبنى الكونغرس، في مطلع عام 2021، لمنع نقل السلطة التي خسرها لمصلحة بايدن في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن ترامب رفض الالتزام، مرة أخرى، خلال المناظرة الأخيرة، باستعداده للإقرار بالهزيمة إذا خسر الانتخابات المقبلة، فإن تشتت بايدن الذهني لم يمكّنه من الاستفادة من ذلك أيضًا.

علاوة على ذلك، لم ينجح بايدن في التركيز على القضايا التي تهم القواعد الديمقراطية والنساء، مثل المخاوف من إلغاء حق الإجهاض الذي ألغت المحكمة العليا دستوريته عام 2022، وذلك بعد نجاح ترامب خلال رئاسته في تعيين ثلاثة قضاة محافظين من أصل تسعة؛ ما أخل بتوازن المحكمة (6 محافظين مقابل 3 ليبراليين). وعجز أيضًا عن توضيح سياسة إدارته الاقتصادية بخصوص ارتفاع نسب التضخم، وأزمات الهجرة غير المشروعة والحرب في أوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أمام هجمات ترامب؛ وهو ما مكّن الأخير من جعل الانتخابات استفتاءً على قدرات بايدن الإدراكية والجسدية. وتشير استطلاعات الرأي، التي أُجريت بعد المناظرة، إلى اعتقاد الجمهور أن ترامب نجح في تقديم أفكاره بوضوح أكبر وشرح سياساته بطريقة أفضل، على الرغم من أن الناخبين يعتقدون، عمومًا، أنه لم يكن صادقًا. ثمّ إنه، في الحقيقة، كرر حجتين فقط خلال المناظرة (مسألة الهجرة والحدود المفتوحة، وطريقة الانسحاب المذلة من أفغانستان). ووفقًا لاستطلاع أجرته شبكة سي إن إن بُعَيد المناظرة، قال 67 في المئة من المشاهدين إنهم يعتقدون إن ترامب فاز فيها، في حين قال 33 في المئة فقط إن بايدن كسبها[5]. أما الاستطلاع الذي أجرته يوجوف في اليوم التالي، فقد أشار إلى أن ترامب فاز بهامش 2 إلى 1 في المناظرة[6]. ووجد استطلاع ثالث أجرته مورنينغ كونسلت في اليوم التالي للمناظرة أن 57 في المئة من الذين تابعوها يعتقدون أن ترامب كسبها، بما في ذلك 19 في المئة من الديمقراطيين، و60 في المئة من المستقلين، و93 في المئة من الجمهوريين[7].

ثانيًا: هل يمكن استبدال بايدن؟

تسبب أداء بايدن في المناظرة الرئاسية في تصاعد أصواتٍ ديمقراطية وأصواتٍ من المانحين لحملته الانتخابية[8]، فضلًا عن وسائل إعلام مؤيدة للحزب الديمقراطي، مثل نيويورك تايمز[9]. وهذه الأصوات تحضّه على فَسْح مجال لجيلٍ جديد من الديمقراطيين لخوض الانتخابات للحيلولة دون عودة ترامب إلى الرئاسة. ومع اعتراف بايدن وحملته الانتخابية بأن أداءه في المناظرة كان سيّئًا، فإنهما لا يزالان يصران على أنه الأقدر على هزيمة ترامب. وقد عمل مستشارو بايدن على الاتصال بأعضاء الكونغرس الديمقراطيين وكبار المانحين والمؤيدين الرئيسيين لحملته الانتخابية؛ من أجل تهدئة مخاوفهم، والتأكيد لهم أن الرئيس بايدن لا يفكر في الانسحاب من الانتخابات.

وتشير المعلومات المتوافرة أن زوجة بايدن، جيل، التي يعتقد أنها الشخص الأكثر تأثيرًا في قرارات الرئيس الذي لا يمكنه الاستمرار من دون دعمها، تُصرّ – مع بقية أفراد العائلة الذين اجتمعوا يوم الأحد 30 حزيران/ يونيو 2024 في منتجع كامب ديفيد – على استمرار بايدن في الترشح[10]. ويبدو أن زعماء الديمقراطيين في الكونغرس قد حسموا أمرهم بعدم التدخل في قرار الرئيس، إلا أنهم، في إشارة إلى عدم رضاهم عن استمراره في الترشح، يتجهون إلى التركيز على الظفر بمجلسَي النواب والشيوخ، بغضِّ النظر عن نتيجة السباق الرئاسي.

وعمليًا، لا يُعدّ استبدال بايدن بمرشح آخر خيارًا متاحًا، بحسب القواعد الحالية للجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، إلا إذا قبل هو التنحي طواعية، أو عجز عن الاستمرار في الترشح من جرّاء عارض صحّي يُقعده، أو نتيجة غياب مفاجئ. وقد نجح، من الناحية التقنية، في تأمين ترشيح حزبه له بعد أن فاز في الانتخابات التمهيدية التي واجه فيها معارضة رمزية فقط، ولديه ما يكفي من المندوبين Delegates لدعمه عندما يتمّ البت في الترشح رسميًا، في المؤتمر الوطني الديمقراطي المقرر في آب/ أغسطس 2024. ونظرًا إلى أن كل ولاية عقدت بالفعل انتخاباتها التمهيدية الرئاسية، فإن قواعد اللجنة الوطنية الديمقراطية تلزم المندوبين الذين فاز بهم بايدن بالتعهد بدعمه في المؤتمر الوطني للحزب. لكن بايدن إذا وافق على الانسحاب، أو عجز عن الاستمرار في الترشح، فإنه يمكن حينئذ أن تفتح اللجنة الوطنية الديمقراطية باب التصويت على مرشَّحَين جديدَين لمنصب الرئيس ونائبه، ويكون الفائزان بأغلبية الأصوات هما المرشَّحَين الرسميَّين للحزب[11].

ثالثًا: مخاطر استبدال بايدن

لا تستطيع نائبة الرئيس، كامالا هاريس، المرشحة مع بايدن مرة أخرى للمنصب، أن تحل تلقائيًا محل الرئيس في الترشح للرئاسة، بل عليها أن تدخل في منافسة على بطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي مع مرشَّحَين آخرين، مثل حاكم ولاية كاليفورنيا، جافين نيوسوم، أو حاكمة ولاية ميتشغان، غريتشن ويتمر، أو حاكم ولاية إلينوي، جي بي بريتزكر، أو حاكم ولاية بنسلفانيا، جوش شابيرو. ويخشى الديمقراطيون من أن حصول مثل هذه المنافسة قد تمزق وحدة الحزب قبل الانتخابات، كما أنه قد يخلق مرارات، خصوصًا إذا لم تكن هاريس هي البديل، وهو الأمر الذي من شأنه أيضًا أن يؤثر سلبيًا في دعم الأميركيين السود للديمقراطيين، على أساس خلفية هاريس العرقية. ولا تخفي مصادر داخل حملة هاريس استياءها من الحديث عن مرشَّحَين آخرين مفترضين لاستبدال بايدن إنْ قرّر الانسحاب أو عجز عن الاستمرار في الترشح، وترى هذه المصادر في ذلك إحالةً ضمنية متعلقة بفوقية “الأميركي الأبيض”[12].

ويخشى الديمقراطيون أيضًا، في حال المضي في خيار البحث عن بديل لبايدن قبل أشهر قليلة من الانتخابات العامة، أن يتم اختيار شخص لم يفحص سجلّه جيدًا، بحيث قد تنهار حملته فجأة نتيجة فضيحة لم تُكتَشف سابقًا، أو نتيجة أدائه السيّئ في الحملة الانتخابية أو في مناظرة رئاسية[13]. ثمّة مخاوف أيضًا من أنه في حال عجز مندوبي الحزب البالغ عددهم 3933 مندوبًا عن انتخاب مرشَّحَين عن الحزب لمنصب الرئيس ونائب الرئيس أن يتدخل من يُعرفون في الحزب بـ “المندوبين الكبار” أو Super Delegates، وهم كبار قادة الحزب والمسؤولين المنتخبين الذين يُعيَّنون تلقائيًا مندوبين للمؤتمر بناءً على مناصبهم وعددهم 739، لحسم مسألة تحديد بديل لبايدن. وبحسب قواعد تصويت المندوبين في الحزب الديمقراطي منذ عام 2016، فإنه لا يُسمح للمندوبين الكبار بالتصويت في الجولة الأولى من الاقتراع، ولكنهم يصوتون في الاقتراعات التالية؛ وذلك لتجنب الانقسامات والاتهامات في الحزب بأن قيادته تتلاعب به وتسيطر عليه[14].

وعلى العموم توجد فرصه لفوز مرشح جديد على ترامب فقط، إذا حظي بإجماع الديمقراطيين. أما إذا حصلت منافسة ومشاحنات بين عدة مرشَّحَين، فإنها ستعرقل التركيز على المنافسة مع ترامب في الوقت القليل المتبقي.

خاتمة

أثار الأداء الضعيف لبايدن في المناظرة الرئاسية مخاوف حقيقية، داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، من احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة، بما يعنيه ذلك من توتراتٍ حزبية وسياسية وعرقية وثقافية، وخطرٍ على الديمقراطية أيضًا، فضلًا عن الصدام مع الحلفاء. وبهذا يكون بايدن قد جعل الديمقراطيين والعالم أمام وضع صعبٍ، بإصراره على الترشح على الرغم من أنه كان تعهد عام 2020 بأن يكون رئيسًا انتقاليًا خلال دورة واحدة لحماية الولايات المتحدة من ترامب[15] الذي يعدّه تهديدًا وجوديًا للديمقراطية الأميركية، وها هو اليوم بإصراره على المضي في الترشح، على كبر سنّه وتراجع قدراته البدنية والإدراكية، يكاد يسلّم له البلد من جديد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button