أخبارالرئيسيةفي الصميم

لماذا اعتبر “تيك توك” عدوا للقيم و قنبلة نووية تنسف الحضارة الانسانية ؟

< مَنَحَتْ وسائلُ التواصُلِ الاجتماعيّ حقَّ الكلامِ لجُيوشٍ من الحَمْقى، كانوا يتحدّثون فقط في الحاناتِ بعدَ كأسٍ من النبيذِ، دونَ أن يتسبَّبوا بأيِّ ضررٍ للمُجتمَعِ؛ وكانَ يتمُّ إسكاتُهُم فورًا. أمّا الآن، فلهم الحقُّ بالكلامِ، مثلُهم مثلُ مَنْ يحملُ جائزةَ نوبل. إنّه غزوُ البُلهاءِ.> – أمبيرتو إيكو.

انظر الى هؤلاء و الساعات الطويلة التي يقضونها كل يوم مع تيك توك…

3 او 4 ساعات؟ كلا، ربما وصلت نسبة الاستخدام بالكثير منهم الى ازيد من 10 ساعات يوميا حسب اخر الدراسات و الاحصاءات الدولية حول هذا الموضوع.

بقلم/ د.د. مهدي عامري

عصر رقمي كاسح و استهلاك متعاظم لمقاطع الفيديو دون حسيب او رقيب..

زمن الحرية الجامحة و تفلسف الحمقى على المنصات…

زمن الانهيار و التفاهة العابرة للقارات !

ما ربحنا من الحرية المفرطة الا الفوضى و قلة الادب !

انظر الى هؤلاء الشباب و هم يلتصقون بشاشات هواتفهم الذكية، و يقضون ساعات طويلة في تأدية رقصات مبهجة ومسلية على أنغام تيك توك أو يشاركون صورًا معدلة بعناية..

هنا، باتت الأسئلة تثار بكثرة حول تأثير هذه العوالم الافتراضية على القيم المجتمعية، وحول مدى حاجتنا لحلول “جذرية” قد تتضمن حظر المحتوى التافه الذي اغرق الانترنت و اتى على الاخضر و اليابس..

لكن ما هو الحظر ؟

أليس كل ممنوع مرغوب ؟

هل الحظر فعل حكيم يهدف إلى حماية القيم المجتمعية، أم أنه شكل من أشكال الرقابة التي تسعى لفرض رؤى معينة على الحريات الشخصية؟

و بينما يسابق الجميع الزمن ليتسيدوا العالم الرقمي، يطرح اهم سؤال على وجه الارض : هل الخلاص يكمن في الحظر ؟

في هذا المقال، سنغوص في بحر هذا الجدل المستعر من خلال عدسة فلاسفة قدامى ومحدثين، من أفلاطون الى سيمون دي بوفوار و غيرهم، محاولين فهم ما إذا كانت هذه العوالم الافتراضية تفسد القيم بالفعل، وما إذا كان الحظر هو الحل الأمثل.

قبل سنوات قليلة، و غداة اطلاقه و اتاحته للجمهور كان تيك توك مجرد منصة بسيطة تقدم محتوى مرحا ترفيهيا. يمكننا القول انه كان يشبه السكين في المطبخ: أداة مفيدة ولكن يمكن أن تكون خطيرة اذا وقعت في يد اللصوص المتسللين الى البيت.

إن دارسي الرقمنة الجدد يرون أن تيك توك قد تحول إلى وباء فتاك، مجسد لثقافة التفاهة و الرداءة ، بما انه مفسدة لعقول الشباب و وسيلة تبعدهم عن القيم الحقة.

ان بعض المنتقدين للتحولات الرقمية المعاصرة يذهب إلى القول ان تيك توك يمثل تهديداً حضارياً.. و لعل ألدوس هوكسلي، الذي سطع نجمه ككاتب متخصص في الخيال العلمي بين عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي، لعله كان سيلعن اليوم الذي ولدته فيه امه لو سافر عبر الزمن و كان شاهدا معاصرا على حالة الهستيريا التي اصابت الجزء الاعظم من المستخدمين النشطين لتيك توك، و لعله ايضا كان سيؤكد أن المجتمع قد فقد قيمه عبر هذه الإساءة اللامسبوقة لاستخدام التكنولوجيا.

لندع الدوس هوكسلي في مرقده منعما بموته و غيابه عن عالمنا السخيف، و لنرجع الى ذاتنا لنطرح تساؤلين وجوديين حول تيك توك :

  1. هل التطبيق نفسه هو المسؤول عن هذا الانحدار، أم أن المستخدمين هم من يقررون المحتوى؟
  2. ربما أفلاطون لو كان حيا كان سيعتبر هذه المنصة ساحة أخرى للمحاورات الساخرة حول “العدالة الرقمية”، حيث تتحكم الخوارزميات بما نراه وما لا نراه، وبالتالي كان من الممكن ان يطرح افلاطون السؤال: ا ليست هذه النسخ المصغرة من الحقيقة الثاوية في كل هاتف محمول، هي الزيف و الخداع بعينه ؟

لست وحدك يا افلاطون من يتملكه الجنون حيال عصرنا الرقمي الغارق في الفراغ و انعدام المعنى، فاذا قفزنا في الزمن و تخيلنا كيف سيتفاعل بعض الفلاسفة المشهورين مع عالم اليوم لكانت حكايات هؤلاء الفلاسفة مغرقة في الدسامة.

ها هو ديكارت الذي تعود على اطلاق مقولته الشهيرة “أنا أفكر، إذا أنا موجود”، سيعدل للتو هذه الصيحة الفكرية ليهتف باعلى صوت : “أنا أفكر، إذن أنا لا أستخدم تيك توك”، و بالتالي سيصير مشككاً في عقلانية قضاء الساعات الطوال في استعراض التفاهة.

أما مارتن هايدغر، الذي شغل العالم بأسئلة “الوجود”، ربما كان سيعتبر أن التيك توك يعيد تعريف الوجود بشكل سخيف، حيث يصبح الإنسان مجرد “كائن” في مسار الخوارزميات، لا سيادة حقيقية له على مصيره و مساره الرقمي.

وربما كان كارل ماركس سيشعر بالفزع من “الاستغلال الرأسمالي” الذي تمارسه شركات التكنولوجيا، متسائلاً عن العدالة في أن يجمع تيك توك بيانات الملايين مقابل دقائق ترفيهية قد لا تعني شيئًا في نهاية المطاف.

هنا يا حبيبي يأتي دور الحظر، و يصير المنع مطلوبا بل مباركا، و يتحول في سرعة البرق الى هذا الزر السحري الذي تستخدمه بعض الدول لحل المشكلات الثقافية.

ان الهند، على سبيل المثال، لم تتردد في حظر تيك توك تماماً، معتبرةً أن هذا الحظر سيمنع شبابها من التأثر بالثقافة “التافهة”. لكن هل نجح ذلك؟ بالطبع لا. فكما يقول فريدريك نيتشه: “ما لا يقتلك يجعلك أقوى”، و في هذا الصدد، يبدو أن الشباب باتوا أكثر إصرارًا على العثور على طرق جديدة للتسلية، وبات الحظر بالنسبة لهم لا يعني الشيء الكثير، لانه ربما مجرد هروب كبير من مواجهة القضايا الحقيقية التي تؤرق مضجعهم : الشغل، الكرامة و العدالة الاجتماعية.

و الان، تخيل معي ان أمبيرتو إيكو شاركنا كتابة هذا المقال.

تخيل!

ها هو ذا يشير إلى فكرة “التخمة الإعلامية”، مؤكدا أن الحظر لا يحل المشكلة بقدر ما يدفعنا إلى اجترار نفس المحتويات بغلاف جديد. فالمشكلة ليست في المنصات بقدر ما تتمثل في أننا نستهلك المحتوى بشكل مفرط دون التوقف لحظة للتفكير في كيفية تشكيله لعالمنا.

التقنين.. المنع.. الحظر .. هل هذا هو الحل الانجع ؟

إذا كان الحظر يشبه المطرقة الثقيلة، فإن التقنين هو السكين الحاد الذي يسعى إلى قطع المحتوى الضار دون التعدي على الحريات. ولكن كما أشار ايمانويل كانط فان الإرادة الحرة تتطلب مجموعة من القوانين المنظمة، بشرط ألا تقمع الحريات. و في حالة تيك توك، أين يمكن أن نجد هذا التوازن بين الرقابة والحريات؟

ان ألمانيا، على سبيل المثال، طبقت قانون “نيتس دي جي” لضبط المحتوى الضار، ولكن حتى هذا الحل لم ينجح في القضاء تمامًا على المشكلة. و هنا يمكن ان نستحضر سيمون دي بوفوار و هي تصرح : “الحرية ليست شيئاً تمنحك إياه السلطة؛ بل هي القدرة على الاستمرار في تجاوز القيود.” وهكذا، في ضوء هذه المقولة الفلسفية، يبدو أن البشر سيستمرون في تجاوز القوانين مهما كانت مشددة، لأن الرغبة في التمرد والبحث عن الممنوع جزء من طبيعتهم.

في ثمانينيات القرن الماضي حين منعت السلطات المغربية رواية ” الخبز الحافي” نظرا لمحتواها ” البورنوغرافي” تهافت القراء على مطالعة هذه الرواية المثيرة التي كانت تمر بسرية من قارىء الى اخر ، لدرجة انها سنوات قليلة بعد ذاك صارت من اكثر الروايات شعبية في العالم العربي بمعدل وصل الى ملايين القراءات.

هذا المثال يبين لنا بجلاء ان المنع احيانا قد يعطي المفعول العكسي.

ربما، ليس المنع هو الحل..

قد يتساءل البعض رغم ذلك : هل الحل يكمن في حظر التطبيقات وتقنينها؟ أم أن الحل الحقيقي يكمن في التربية الرقمية السليمة و السوية ؟

ربما كان جون جاك روسو ليطرح هذا السؤال بطريقة أكثر حدة. فكما كان روسو يؤمن بأن الإنسان يولد نقيًا، ولكن تفسده المجتمعات، فانه قد يرى أن الشباب يدخلون العالم الرقمي وهم اطهار، ولكن تفسدهم لعنة الخوارزميات.

هنا اذا تأتي أهمية التربية الرقمية، فهي ليست مجرد تعليم اليافعين لكيفية الاستخدام الافضل للإنترنت، بل هي تتطلب إكسابهم مهارات التفكير النقدي، والقدرة على التمييز بين المحتوى المفيد والضار، وفهم كيفية حماية خصوصيتهم في عالم باتت فيه البيانات هي السلعة الأكثر قيمة.

و عند النظر إلى تجارب الدول المختلفة في استخدام تيك توك، نلاحظ أن النتائج متباينة. ففي الصين، مثلاً، يبدو أن الحظر الصارم للمحتوى الغربي قد نجح في حماية القيم المجتمعية، لكن هل لان الحكومة الصينية منعت تيك توك فهي فرضت على الشعب الصيني ان يقبع في كهف أفلاطوني، محاطًا بظلال زائفة من الواقع؟

أما فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، فان هذا الاخير قد اختار مقاربة أكثر توازناً، تجمع بين حماية الخصوصية وحرية التعبير. وربما يكون هذا هو المسار الأكثر حكمة على المدى الطويل، حيث يتوازن بين الرقابة والحريات، و هذا يتماشى مع الطرح الفلسفي لبيير بورديو في تحليله للمجتمعات الحديثة؛ فهو يرى ان الحلول الوسطية هي الامثل التي تحفظ توازن السلطة والمعرفة.

ختاما، نصل الان إلى مجموعة من الأسئلة التي قد تدفعنا للتفكير بشكل أعمق في ظاهرة التيك توك و ظواهر اخرى مشابهة، ربما في سلسلة مقالات مستقبلية…

نتساءل اذا :

  1. هل نحتاج فعلاً إلى حظر بعض المنصات لحماية القيم المجتمعية، أم أن الحل يكمن في تعزيز التربية الرقمية؟
  2. كيف نحقق التوازن بين الحريات الفردية وحماية المجتمع في العصر الرقمي؟
  3. هل يمكن أن نسيطر على الخوارزميات، أم أننا محكومون بأن نظل كالدمى بين اياديها ؟
  4. وأخيرًا، لو كان حيا يرزق بين ظهرانينا، هل كان سقراط سيستخدم تيك توك ليطرح أسئلته الفلسفية الساخرة على جمهوره العالمي ؟

كن واثقا ان هذه الأسئلة ليست مجرد طروحات نظرية، بل هي دعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالعالم الرقمي، و محاولة جادة لفهم كيف يمكن أن نعيد تشكيله بما يخدم حرياتنا وقيمنا في آنٍ واحد

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button