أخبارالرئيسيةفي الصميم

هل يتحدى الإنسان الخالق حين يزرع شريحة في دماغه؟

“وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” (سورة الإسراء: 36).منذ مستهل عام 2020، حينما بدأ الكون يُعاني من وطأة وباء كورونا الذي اجتاح الكوكب كما لو أنه قرر فجأة أن يُظهر للبشرية حقيقتها الهشة والمحدودة، وجدتني، وبلا سابق إنذار، مُنساقًا إلى التأمل في تلك الأبحاث الغريبة التي بدأت تظهر تباعًا حول زرع الشرائح في دماغ الإنسان.ويا للهول ! من كان يظن أن البشر، في ظل هذا الزلزال الصحي والاجتماعي، سيبدأون في التلاعب بما هو أقدس وأكثر تعقيدًا، أي أدمغتهم؟و كأن الأمر لم يعد مقتصرًا على مواجهة الفيروسات والجراثيم، بل باتت المعركة تتجاوز ذلك إلى التحدي الأسمى: تحدي قدراتنا البشرية وحدودها.كانت هذه الفكرة، التي لم أكن أوليها اهتمامًا من قبل، تستحوذ على فكري شيئًا فشيئًا، وكأنها مغناطيس يجذب كل تأملاتي نحوها، مُحتلةً مكانًا في أعماق نفسي لا أملك إلا أن ألتفت إليه.

بقلم/د. مهدي عامري _ خبير في الذكاء الاصطناعي

إذ كيف لا تستولي على الفكر والوجدان تلك الفكرة الغريبة التي بدت كأنها ولدت من رحم الجنون؟أن نزرع في أدمغتنا مجموعة من الشرائح… و لعلمكم فان الشريحة هي تلك المادة المصنوعة من أسلاك وأجزاء لا حياة فيها، فهل نعتقد أنها قد تجعلنا نتغلب على ضعفنا الأزلي أمام المرض والموت؟وا مصيبتاه ! هل بلغ بنا اليأس هذا المدى، حيث أصبحنا نبحث عن الخلاص في تكنولوجيا لا نعلم حدودها ولا عواقبها؟رأيت في هذه التكنولوجيا، وسط تلك الظروف العصيبة التي عاشتها البشرية، سعيًا محمومًا للسيطرة على ما هو خارج عن إرادتنا. وكأن لسان حال البشرية قد هتف : “إن كانت الطبيعة قد أعلنت حربها علينا، فلن نكتفي بالدفاع، بل سنهاجمها بأسلحتنا”.

يا للهول ! كيف لنا أن نتصور أن زرع شرائح في أدمغتنا قد يكون الحل لكل مشاكلنا؟ ألا يعبر هذا عن حالة من الهوس الجماعي الذي أخذ يسيطر على عقولنا في مواجهة مصير لا نعرف كيف نتعامل معه؟ كان الأمر أشبه برحلة في عالم من اللامعنى، حيث اختلط الحابل بالنابل ولم يعد هناك فارق واضح بين ما هو إنساني وما هو ميكانيكي.كانت تلك الأفكار تتضارب في ذهني وأنا أراقب بألم وحيرة ذلك الصراع الأبدي بين الحياة والموت.

و لم يكن الأمر يتعلق فقط بمحاولة البقاء على قيد الحياة في مواجهة فيروس لا يُرى بالعين المجردة، بل كان يتعلق بشيء أكبر وأعمق. و كأن البشر، في مواجهة هذا العدو الجديد، قرروا أن يمسحوا الفوارق الدقيقة بين الإنسان والآلة، وأن يخلقوا كائنًا جديدًا، نصفه من لحم ودم، والنصف الآخر من أسلاك ودوائر كهربائية.كنت أتأمل هذا العته اللامسبوق الذي يبدو أنه استحوذ على عقولنا، وأسأل نفسي: هل فقدنا بوصلة الحكمة في خضم هذا الصراع؟ و هل أصبحت حياتنا مجرد محاولة يائسة للسيطرة على كل شيء، حتى على أنفسنا؟مسافرون في دنيا الله، نعم.. ولكن بدلًا من الاستظلال باليقين في حكمته وقضائه، ها نحن نغرق في اللايقين، و نحاول أن نتحكم في مصائرنا بطرق تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.كان من الواضح أن طموح البشر قد تجاوز حدوده المعقولة، وأننا نسير في طريق لا نعرف نهايته.كيف يمكن أن نعتقد بأننا قادرون على مواجهة قوى الطبيعة بهذه الطريقة؟ ألسنا بذلك نضع أنفسنا في مواجهة مباشرة مع قوانين الكون، تلك القوانين التي لم نكن يومًا قادرين على تجاوزها؟ ألسنا نلعب بالنار ونحن نظن أننا قادرون على التحكم بكل شيء، حتى بما يجري داخل عقولنا؟وأنا أراقب هذا الجنون، كنت أشعر بأنني أشاهد عرضًا مسرحيًا عبثيًا، حيث يتنافس البشر في إظهار قوتهم وسيطرتهم، ولكن دون أن يدركوا أنهم قد يفقدون بذلك إنسانيتهم. و كان الأمر أشبه بمحاولة لإعادة كتابة قصة البشرية، ولكن هذه المرة باستخدام أدوات لم يكن لها مكان في القصص السابقة: الشرائح المزروعة، والأسلاك التي تنبض بالحياة بين أضلاعنا، والتكنولوجيا التي تحاول أن تلعب دور الخالق.

و داخل هذه المعمعة المنفلتة من اسار المنطق و المرتمية بين الاذرع الشيطانية للجنون لم أكن أستطيع إلا أن أشعر بالسخرية و المرارة. كيف وصل بنا الحال إلى أن نحاول محاربة ضعفنا البشري باستخدام أدوات قد تزيد من هذا الضعف بدلًا من تقويته؟ كيف لنا أن نعتقد أن زرع شريحة في الدماغ قد يجعلنا أقوى وأذكى وأكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة؟ أليس هذا هو الجنون بعينه؟ كان العالم، في رأيي، قد أصبح مسرحًا كبيرًا للامعقول، حيث كل شيء ممكن وكل شيء مباح.

ولكنني كنت أعلم في قرارة نفسي أن هذا الجنون لن يدوم، وأننا في نهاية المطاف سنواجه الحقيقة الصعبة: و هي أن هناك حدودًا لا يمكن تجاوزها، وأننا مهما حاولنا، سنظل بشرًا، ضعفاء أمام قوى الطبيعة، ولكننا نستظل بالإيمان بقضاء الله وقدره.

ورغم كل ما كنت أراه من حولي، لم أكن أستطيع أن أتجاهل ذلك الشعور العميق بأن هناك شيئًا ما خطأ. كان هناك إحساس متزايد بأننا نلعب لعبة خطيرة، وأننا قد نفقد في النهاية أكثر مما نربح.و كان ثمة سؤال يغلي في داخلي : هل سنكتشف في وقت متأخر أننا نسير دون بوصلة و اننا قد أضعنا الطريق، وأننا بدلاً من تحسين حياتنا، قد جلبنا على أنفسنا المزيد من المتاعب؟وأخيرًا، كنت أجد نفسي أفكر في تلك الأيام التي كانت فيها الحياة أبسط، حين كان الإنسان يقبل ضعفه ويسعى للتغلب عليه بطرق طبيعية.

أما الآن، فقد دخلنا في عصر جديد، عصر شرائح الدماغ والتكنولوجيا المتقدمة، ولكننا لا نعلم إلى أين سيأخذنا هذا الطريق.وفي خضم هذه الأفكار، كنت أعود دائمًا إلى تلك الحقيقة الاساسية :و هي أننا مهما تقدمنا في درجات العلم والتكنولوجيا، سنظل بحاجة إلى الحكمة والصبر والإيمان. لأننا، في نهاية المطاف، لسنا سوى عابري سبيل،و نحاول أن نفهم معاني الحياة ونبحث عن مكاننا فيها، ولكننا نستظل باللايقين في العالم مع الإيمان بقضاء الله وقدره، راجين أن نجد في هذا العالم المليء باللامعنى طريقًا يقودنا إلى الطمأنينة والسلام.

و اليوم، دعني اسالك : هل يتحدى الإنسان الخالق حين يزرع شريحة في دماغه؟يتسابق العلماء والباحثون مع الزمن لاكتشاف “اللمسة النهائية” التي ستحول الإنسان إلى آلة خالدة تتحدى الزمن. يتدخل هؤلاء في الطبيعة بالعلم والابتكار والتكنولوجيا لنمذجة الإنسان الخارق الذي لا يُقهر.إنسان بلا تجاعيد، بصحة فولاذية، بشباب دائم، وبمعدل حياة يتجاوز بكثير 100 سنة.وفي مشهدية التحدي والتهافت هذه، يظهر لنا إيلون ماسك على خشبة المسرح العلمي كمبدع لواحدة من أكثر الابتكارات غرابة وإثارة للجدل في تاريخ البشرية: “الشريحة الدماغية”.تتألق هذه الفكرة غير المسبوقة في تاريخ البشرية في أذهان البعض كنبوءة لعصر جديد من “الإنسان الخارق”، لكنها في نظر الآخرين تبدو كأنها محاولة يائسة وربما شريرة من الإنسان للعب دور الإله على الأرض.ربما كان إدغار آلان بو سيبتسم بمرارة لو كان هنا بيننا ليرى كيف يريد البشر أن يتلاعبوا بالعقل والأفكار حتى يصلوا إلى نقطة اللاعودة.ربما كان جون بول سارتر سيستغرب من إصرار هذا الإنسان على الوجود، وما هو في نهاية المطاف إلا كائن ضعيف مقذوف به دون إرادته واختياره الحر في العالم.تخيل معي مشهدًا يجتمع فيه ثلاثة من كبار المفكرين والأدباء: محمد شكري، الكاتب المغربي المعروف بسردياته الصريحة عن البؤس والحرمان؛ رولان بارت، الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي الشهير بنظرياته عن السيميولوجيا وعلم العلامات؛ وإدغار موران، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الذي عُرف بإسهاماته في دراسة التعقيد ونظرياته متعددة التخصصات.

بالنسبة لمحمد شكري، الذي كتب عن التجارب الشخصية القاسية والفقر والبؤس، قد يرى في فكرة زراعة الشريحة الدماغية نوعًا جديدًا من السيطرة والهيمنة على الإنسان. فقد كان محمد شكري دائمًا معبرًا عن الصراع بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والقهر. لذلك، فإن زراعة شريحة في دماغ الإنسان، حتى وإن كانت تحمل وعودًا بتحسين القدرات أو علاج الأمراض، قد تبدو له كنوع من الاستعباد التكنولوجي.قد يتساءل شكري في هذا السياق: “هل نحن حقًا بحاجة إلى مزيد من القيود، حتى لو كانت في شكل شريحة داخل أدمغتنا؟ أليست هذه محاولة جديدة لسلب الإنسان حريته؟”.

وبالنظر إلى تجاربه الشخصية، سيشكك في نوايا هذه التقنية ويعبر عن خوفه من أن تتحول إلى وسيلة أخرى للسيطرة على عقول الفقراء والمحرومين، أولئك الذين هم بالفعل في قاع المجتمع ويُنظر إليهم بازدراء شديد.أما بالنسبة لرولان بارت، الذي كانت اهتماماته تنصب على تحليل الرموز والمعاني داخل المجتمعات، فقد يرى في زراعة الشريحة الدماغية محاولة لتغيير بنية المعنى ذاته. فبالنسبة لبارت، الإنسان ليس مجرد كائن مادي، بل هو حامل للرموز والمعاني التي تتشكل عبر اللغة والثقافة.هنا قد يحذر بارت من أن الشريحة الدماغية قد تؤدي إلى تغيير جذري في الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع عالمه، وقد يرى في هذه الشريحة تهديدًا لتعددية المعاني وتنوع الثقافات. فالشريحة قد تجعلنا نتحدث بلغة واحدة، نفكر بطريقة واحدة، ونتفاعل مع العالم من خلال عدسة واحدة مبرمجة من قبل من يملك القدرة على التحكم فيها.يمكن أن يتساءل بارت: “ماذا سيحدث عندما تصبح الرموز التي نبني عليها هويتنا محكومة بشريحة صغيرة؟ كيف سيؤثر ذلك على قدرتنا على تشكيل معانينا الخاصة وإيجاد رموز جديدة تعبر عن تجاربنا؟”. ومن المؤكد أنه بالنسبة له، الشريحة الدماغية ليست مجرد تطور تكنولوجي، بل هي تدخل في النسيج المعقد للمعنى البشري.أما إدغار موران، الفيلسوف الذي عُرف بنظرياته حول التعقيد، فقد يتناول قضية الشريحة الدماغية من منظور شامل ومركب. وقد يرى موران في هذه التقنية محاولة لتبسيط الإنسان وتجاهل تعقيداته العديدة.وقد يعارض موران، الذي يؤمن بأن الإنسان هو كائن معقد يتألف من أنظمة متعددة تتفاعل مع بعضها البعض، فكرة زراعة شريحة تتحكم في جزء معين من العقل، دون مراعاة تداخل هذا الجزء مع باقي النظام. وقد يحذر من أن هذه الشريحة قد تؤدي إلى نوع من التجزئة والتبسيط الخاطئ للعقل البشري، مما قد ينعكس سلبًا على الإنسانية ككل.قد يسأل موران: “كيف يمكن لتكنولوجيا تعتمد على تبسيط التعقيدات العصبية أن تفهم الإنسان بكليته؟ وكيف يمكن لهذه الشريحة، مهما كانت متقدمة، أن تحترم تكامل الأنظمة البشرية؟”. و بالنسبة له، يجب أن تكون أي محاولة لتحسين الإنسان مدروسة بعناية، ومبنية على فهم عميق لتعقيدات الوجود البشري.في هذا المشهد المتخيل، يمكننا أن نرى كيف أن ثلاثة مفكرين من أوساط وتجارب مختلفة قد يتفقون على تحذير البشرية من المخاطر الكامنة في زراعة الشريحة الدماغية. فشكري سيركز على القمع والاستبداد، وبارت سيحذر من تلاشي التنوع الثقافي والمعنوي، بينما سيدعو موران إلى التفكير في التعقيد البشري ككل. وفي النهاية، فإن كلًا منهم سيرفض هذه التقنية، ليس فقط من منطلق أخلاقي، بل أيضًا من منطلق الحفاظ على جوهر الإنسانية وتعقيداتها.لكن قبل أن نغوص في دهاليز الأخلاقيات والفلسفة، دعونا نرجع بالزمن إلى الماضي القريب، إلى الأربعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت أمريكا وألمانيا أولى خطواتهما في مشروع “صناعة الجندي الخارق”، لنكتشف كيف أن هذه الفكرة التي بدأت كحلم عسكري أصبحت اليوم طموحًا علميًا يتم السعي لتحقيقه في مراكز البحوث العالمية.و يجب أن ننتظر 80 سنة بعد هذا التاريخ وبالضبط عام 2020، حيث أعلن إيلون ماسك، ذلك العبقري الغريب الأطوار الذي يظن البعض أنه جاء من كوكب آخر، عن مشروعه الثوري الجديد: “نيورالينك” (Neuralink)، وهي شركة تهدف إلى زرع شريحة ذكية في الدماغ البشري.و حاليًا، يدّعي ماسك أن هذه الشريحة ستكون قادرة على علاج الأمراض العصبية، وتحسين الذكاء البشري، بل وربما تمنح البشر قدرة اتصال غير مسبوقة مع الآلات والتقنيات الحديثة.ربما هناك جزء من الحقيقة ضمن هذه الوعود وفي قلب هذا الكلام المعسول، ولكن بيننا وبين إيلون ماسك الأيام.وفي جميع الأحوال يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو التالي: هل نحن أمام ابتكار علمي حقيقي يمكن أن يغير مسار البشرية نحو الأفضل؟ أم أن ماسك يسعى لتحويل الإنسان إلى مجرد آلة أخرى في عالم يحكمه الذكاء الاصطناعي؟لعل الفكرة ذاتها، أي “صناعة الإنسان الخارق”، ليست جديدة تمامًا. ففي أربعينيات القرن الماضي، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة وألمانيا في تنفيذ مشاريع سرية تهدف إلى خلق “الجندي الخارق”. وكانت هذه المشاريع تهدف إلى تعزيز القدرات الجسدية والعقلية للجنود، ليصبحوا آلات حرب لا تُقهر. ولكن تلك التجارب باءت بالفشل، أو لنقل إن النتائج لم تكن بمستوى الطموحات.لكن هل كانت تلك التجارب مجرد بداية؟ وهل مشروع إيلون ماسك اليوم هو الوريث الشرعي لتلك المحاولات الفاشلة؟ربما الأمر أبعد من مجرد طموحات عسكرية، فهنا نحن نتحدث عن تدخل مباشر في خلق الإنسان، وعن محاولة “تحسين” هذا الخلق ليصبح أقرب إلى الكمال.وهنا يطرح السؤال الأخلاقي الأكبر: هل يمكن للبشر أن يتحكموا في مصيرهم إلى هذا الحد؟ في الواقع، عندما نتحدث عن زرع شريحة في الدماغ البشري، فنحن لا نشير فقط إلى تطور تقني بسيط، بل إلى قفزة نوعية في الفكر الإنساني، بعبارة أخرى: إنه تحدٍ واضح لمفهوم الخلق.

وفي هذا السياق، نجد أن الفلاسفة الأخلاقيين عبر العصور كانوا ولا زالوا يشكلون حجر الزاوية في مناقشة مثل هذه المواضيع.وهكذا، استنادًا إلى فلسفة إيمانويل كانط القائمة على احترام الإنسان كغاية في ذاته وليس كوسيلة، سنكون أشد المعارضين لفكرة الشريحة الدماغية. ففكرة الشريحة الدماغية، وفقًا لفلسفة كانط، هي محاولة لتحويل الإنسان إلى وسيلة لتحقيق غايات علمية بحتة، دون اعتبار لكرامته الإنسانية. فكانط يرى أن كل إنسان له قيمة جوهرية ولا يجوز استخدامه كأداة لتحقيق أهداف خارجية، مهما كانت نُبل تلك الأهداف أو تقدمها.يمكننا أيضًا أن نتخيل أن الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو قد ينظر إلى هذا الأمر من زاوية “الفضيلة”، حيث يرى أن الفضيلة تكمن في الاعتدال والتوازن. وبالنسبة له، قد تكون محاولة الإنسان لتحسين نفسه إلى درجة تجعله “خارقًا”، تجاوزًا لهذا التوازن الطبيعي الذي يحافظ على الفضيلة. هنا، يمكن القول إن التلاعب بتعقيدات العقل البشري من خلال الشريحة الدماغية قد يؤدي إلى فقدان الفضيلة، وبالتالي يعصف بالتوازن الذي يقوم عليه كمال الإنسان الأخلاقي.أما جون ستيوارت ميل، صاحب الفلسفة النفعية، فقد يجد مبررًا لزرع الشريحة الدماغية إذا كانت النتيجة النهائية هي تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. ولكنه قد يطرح السؤال الحارق: هل يمكن ضمان أن تكون هذه الشريحة في خدمة الإنسانية أم أنها ستتحول إلى أداة للسيطرة والتحكم؟و هنا تكمن المعضلة، حيث إن النفعية تركز على النتائج، ولكنها قد تتغاضى عن الوسائل إذا ما حققت تلك الوسائل النتيجة المرجوة. وفي هذه الحالة، قد يكون زرع الشريحة مبررًا إذا أمكن تحقيق رفاهية عامة، لكن الخطر يكمن في إساءة استخدام هذه التقنية.أما بخصوص فريدريك نيتشه، الفيلسوف الذي اعتنق فكرة “الإنسان الأعلى” أو “السوبرمان”، فقد يكون متحمسًا لفكرة الشريحة الدماغية. و لكنه في الوقت نفسه قد يحذر من أن تصبح هذه التقنية سلاحًا في يد السلطة أو أنها تبعد الإنسان عن مصيره الحقيقي. فنيتشه كان يرى أن الإنسان يجب أن يتجاوز ذاته، وأن يسعى ليصبح “سوبرمان” من خلال إرادة القوة والتحكم في مصيره.

ولكن زرع شريحة دماغية قد يُعتبر بالنسبة له اختصارًا زائفًا لهذا الطريق، لأنه يعتمد على التكنولوجيا الخارجية بدلًا من التطور الذاتي الداخلي.اما جون بول سارتر، فيلسوف الوجودية، قد يرى في زرع الشريحة الدماغية تعبيرًا عن رغبة الإنسان في الهروب من حريته ومسؤولية اختياراته. فالوجودية تُركز على الحرية المطلقة للإنسان في اتخاذ قراراته وتحمل تبعاتها. فإذا كان الإنسان مزودًا بشريحة تتحكم في أفكاره وسلوكياته، فهل يبقى “حُرًا” حقًا؟ و لعل سارتر قد يرى في هذه الشريحة محاولة للتنصل من عبء الحرية، ومن الهروب من مسؤولية الخيارات التي تشكل جوهر الوجود الإنساني.أما الفيلسوف والطبيب المسلم ابن سينا، فقد ينظر إلى هذه التقنية من منظور طبي بحت، حيث قد يرى في الشريحة الدماغية وسيلة لعلاج الأمراض التي استعصى علاجها على الطب التقليدي. لكنه مع ذلك قد يتساءل عن تأثير هذه الشريحة على النفس البشرية، وهل يمكن أن تؤدي إلى اختلال في التوازن النفسي والروحي للإنسان. فابن سينا كان يركز في فلسفته على توازن الروح والجسد، وقد يرى أن التدخل في العقل بمثل هذه الشريحة قد يخل بهذا التوازن، مما يؤدي إلى اضطرابات غير متوقعة في الطبيعة الإنسانية.

أما ابن رشد، الفيلسوف الإسلامي الذي جسد التوفيق بين الدين والفلسفة، فقد ينظر إلى الشريحة الدماغية كجزء من التقدم العلمي الذي يمكن للبشر استغلاله لتحسين حياتهم. لكنه ربما قد يحذر من أن هذه التقنية قد تؤدي إلى اختلال في القيم والمبادئ الأخلاقية التي يجب أن تبقى محفوظة. و الجدير بالذكر ان بن رشد كان يُؤمن بأن العلم والدين يمكن أن يتكاملا في خدمة الإنسانية، لكن التحدي الذي تطرحه الشريحة الدماغية قد يكمن في استخدامها بطريقة تتجاوز حدود ما هو مقبول أخلاقيًا ودينيًا.و من جهته، فإن الفيلسوف المتصوف ابن عربي قد يرى في الشريحة الدماغية نوعًا من التدخل البشري الذي قد يؤدي إلى فقدان الاتصال بالجانب الروحي. فهو الذي كان ينادي بوحدة الوجود، قد يعارض بشدة فكرة تحويل الإنسان إلى كائن يعتمد بشكل مفرط على التكنولوجيا، مما يؤدي إلى ابتعاده عن جوهره الإنساني.

فابن عربي كان يرى أن الروحانية والاتصال بالوجود الإلهي هما جوهر الإنسان، وأي تدخل مادي قد يشوه هذا الاتصال ويبعد الإنسان عن حقيقته الروحية.و في قلب هذا النقاش المحتدم، يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال الأساسي: هل محاولة الإنسان تحسين نفسه، أو حتى تغيير طبيعته، تعد تحديًا للخالق؟ أم أنها مجرد خطوة طبيعية في تطور البشرية؟ان الدين، بطبيعة الحال، كان دائمًا يُعارض أي محاولة لتغيير “خلق الله”. فقد جاء في القرآن الكريم: “ولآمرنهم فليغيرن خلق الله” (سورة النساء: 119).

ويفسر بعض العلماء هذه الآية بأنها تحذير من الخالق للبشر بعدم التدخل في خلقه لأن ذلك من عمل الشيطان والعياذ بالله.لكن ماذا عن العلم؟ هل يجب أن يتوقف عند حدود الدين، أم أنه يجب أن يستمر في سعيه نحو كشف المجهول؟ربما يكمن الجواب في الاعتراف بأن هناك حدودًا يجب أن تُحترم.

فالتدخل في طبيعة الإنسان قد تكون له عواقب وخيمة، ليس فقط على مستوى الجسد، بل على مستوى الروح أيضًا.”نحن مع التقدم العلمي، ولكننا نعارض تغيير خلق الله”. لعل هذه الجملة أصبحت متواترة، وترددها اليوم الكثير من الأصوات في مواجهة هذا التقدم التكنولوجي السريع. فهل نحن حقًا مع التقدم، أم أننا نخشى العواقب التي قد تأتي معه؟ هل يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذه التكنولوجيا دون أن يفقدوا إنسانيتهم؟في نهاية المطاف، قد يكون المشروع الذي يسعى إليه إيلون ماسك هو مجرد حلقة جديدة في سلسلة من المحاولات الإنسانية للوصول إلى الكمال.

ولكن يجب أن نتذكر دائمًا أن الكمال لله وحده، وأن كل محاولة للوصول إلى هذا الكمال قد تحمل في طياتها سخرية وعبثًا بالقدر.إن المعضلة الكبرى في زرع الشريحة الدماغية تتجلى في التساؤل عن مدى إمكانية السيطرة على نتائجها. فالعلماء قد يبدأون هذا المشروع بنوايا حسنة، كتقديم علاج للأمراض المستعصية أو تحسين قدرات الإنسان العقلية، ولكن ماذا لو تحولت الشريحة الدماغية إلى أداة للتحكم والسيطرة؟ ماذا لو استخدمتها الحكومات والشركات العملاقة للسيطرة على عقول البشر وتحويلهم إلى كائنات خاضعة؟هنا يظهر تساؤل مهم حول الحرية الإنسانية. كيف يمكن للإنسان أن يظل حرًا وهو تحت تأثير شريحة تتحكم في أفكاره وسلوكياته؟ هل يمكننا حقًا الاعتقاد بأن الإنسان يمكن أن يحتفظ بحريته الكاملة في ظل تأثير تكنولوجيا متقدمة كهذه؟ أم أننا بذلك نخطو خطوة أخرى نحو التبعية المطلقة للآلة؟إن هذه الأسئلة تضعنا أمام مفترق طرق حاسم: إما أن نسعى للتقدم العلمي بوعي وحذر، مع مراعاة الحدود الأخلاقية والدينية، أو ننزلق نحو مستقبل مجهول قد يفقد فيه الإنسان جزءًا كبيرًا من إنسانيته.لكن ماذا عن “الكمال” الذي يسعى إليه الإنسان؟ هل يمكن حقًا تحقيق الكمال من خلال تكنولوجيا مثل الشريحة الدماغية؟ هنا نجد أن الفلاسفة الكبار قد حذروا عبر العصور من مغبة السعي وراء الكمال المطلق. فالإنسان، بطبيعته، كائن غير كامل، وهذه اللاكمالية هي ما يجعل الإنسان إنسانًا، بما يحمله من ضعف وهشاشة وقوة في آن واحد.لذلك، فإن محاولة تحويل الإنسان إلى كائن “خارق” قد تكون في واقع الأمر محاولة لسلبه جزءًا جوهريًا من إنسانيته.وفي خضم هذه التساؤلات، يبقى السؤال: كيف سيكون المستقبل في ظل هذه التطورات؟ و هل سيكون هناك نوع من التوازن بين العلم والدين، و بين التطور التكنولوجي والحفاظ على جوهر الإنسان؟ أم أن هذه التقنيات ستؤدي بنا إلى مستقبل مجهول تحكمه التكنولوجيا والآلات؟اذا، يمكننا القول إن السعي وراء التقدم العلمي هو أمر ضروري ومهم، ولكن يجب أن يتم بحذر ووعي كاملين. فالعلم، كما قال ابن سينا، يجب أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس. و إذا تحول العلم إلى أداة للسيطرة والتحكم، فإننا بذلك نكون قد فقدنا البوصلة الأخلاقية التي يجب أن توجه مسارنا.وعلى الرغم من أن الكمال لله وحده، إلا أن سعي الإنسان للكمال يجب أن يستمر ويمارس في إطار أخلاقي وروحاني، بحيث لا يتحول هذا السعي إلى سخرية من قدره، ولا إلى تحدٍ لخلق الله.ومن الثابت أن احترام الحدود الأخلاقية والدينية هو ما سيحافظ على إنسانيتنا في مواجهة هذه التطورات، وهو ما سيمكننا من الاستفادة من التقدم العلمي دون أن نفقد جوهرنا البشري.ربما سيكون المستقبل شاهدًا على ما إذا كان الإنسان سيستطيع تحقيق هذا التوازن، أو أنه سيسقط في فخ السعي غير المحسوب نحو “الكمال التكنولوجي”. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن الابتكار التقني، رغم إمكانياته العظيمة، يحمل معه تحديات ومخاطر تتعلق بالأخلاق والحرية والهوية الإنسانية.إن فكرة زرع شريحة في الدماغ البشري تضعنا أمام معضلات أخلاقية وفلسفية عميقة. فكيف يمكننا التأكد من أن هذه التكنولوجيا ستستخدم لصالح البشرية وليس ضدها؟ وكيف يمكننا ضمان أن تظل هذه التكنولوجيا تحت السيطرة، وأن لا تتحول إلى أداة لاستعباد الإنسان بدلًا من تحريره؟من جهة أخرى، يطرح السؤال الديني نفسه بشكل ملح: هل نحن بصدد تجاوز حدود ما هو مقبول شرعًا وأخلاقيًا؟ فالدين لطالما كان مرشدًا للبشرية في التعامل مع قضايا الحياة والموت، ومع كل ما يتعلق بخلق الله. و هل يجب علينا أن نترك مسار العلم يتقدم بلا قيود، أم أننا بحاجة إلى وضع حدود أخلاقية ودينية واضحة تحكم هذا التقدم؟وفي سياق التوازن بين التقدم العلمي والحفاظ على القيم الإنسانية، يمكن القول إن المبدأ الأساسي الذي يجب أن يقودنا هو الاحترام العميق للإنسان بوصفه كائنًا مكرمًا ومتميزًا بوعيه وإرادته الحرة.

و بالتالي فالتكنولوجيا، مهما كانت متطورة، لا ينبغي أن تنتهك هذا الكرامة أو تنتقص منها.من هنا، نجد أن التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية ليس في تطوير التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في كيفية استخدامها بطرق تحترم جوهر الإنسان وتضمن له الحرية والكرامة. و قد يكون الحل في وضع أطر قانونية وأخلاقية صارمة تحكم استخدام هذه التقنيات، وفي تعزيز الحوار المجتمعي حول مخاطر وفوائد مثل هذه الابتكارات.إن زرع شريحة في الدماغ البشري قد يكون بداية لعصر جديد من التقدم العلمي، ولكنه يحمل في طياته أيضًا مخاطر كبيرة تتعلق بالتحكم في العقول والخصوصية والحرية.

و إذا كان العلم يسعى لتحسين حياة البشر، فعليه أن يسعى الى ذلك دون أن يخلق عالماً يفقد فيه الإنسان حرية الاختيار و الكيمياء الروحية والنفسية التي تميزه.و في الختام، يمكن القول إن المستقبل يحمل في طياته إمكانيات هائلة للتطور والتقدم، ولكن هذا التقدم يجب أن يتم بحذر وعناية فائقة. كما يجب على البشرية أن تتعلم كيف تحقق التوازن بين الطموح العلمي والاعتبارات الأخلاقية والروحية التي تشكل جوهر هويتها.

ان التكنولوجيا، بما في ذلك فكرة “الشريحة الدماغية”، يجب أن تبقى في خدمة الإنسان، لا العكس. وإذا كان التقدم العلمي يسعى إلى رخاء البشرية، فيجب أن يكون ذلك تحسينًا شاملاً، يحترم خصوصيات الإنسان، وحقوقه، وكرامته.قد يكون الطريق إلى المستقبل محفوفًا بالمخاطر، ولكن من خلال الحوار المفتوح والمستمر بين العلماء والفلاسفة ورجال الدين والمجتمع ككل، يمكننا أن نجد طريقًا آمنًا نحو تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على جوهر الإنسان.

وفي نهاية المطاف، يجب أن نتذكر دائمًا أن العلم هو أداة قوية يمكن أن تكون في خدمة الإنسانية إذا ما استخدمت بحكمة وتوجيه أخلاقي. ولكن إذا فقدنا السيطرة عليها، فقد تتحول إلى قوة مدمرة تقودنا بعيدًا عن طبيعتنا الإنسانية وعن القيم التي تجعل حياتنا تستحق العيش.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button