أخبارالرئيسيةفي الصميم

المغرب وفرنسا..من لاسيل سان كلو إلى زيارة ماكرون

جاء خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البرلمان المغربي الثلاثاء الماضي قويًا، حيث طرح فيه بعمق كبير القضايا التي كان ينبغي أن تُطرح.
جدد ماكرون التأكيد على اعتراف بلاده بمغربية الصحراء، وحمل خطابه أمام البرلمان المغربي معطى جديدًا يتمثل في قرار مغربي – فرنسي يتجاوز مجرد الشراكة،بل اتفاقا يروم تجديد التقارب الاستراتيجي ووضع رؤية جديدة للعلاقات بعد أن استنفد تصريح (اتفاق) لاسيل سان كلو لعام 1955 الذي وقع بين الحكومة الفرنسية بقيادة رئيس الوزراء بيير منديس فرانس ، وممثلين عن الملك محمد الخامس ، لتهيئة الظروف لإنهاء الحماية الفرنسية على المغرب.
ثمة قناعة لدى فرنسا أنه بعد الحرب الأوكرانية-الروسية ستكون بحاجة إلى علاقات قوية في جنوب البحر الأبيض المتوسط، نظرا لانها تواجه مشاكل وتعقيدات كبيرة في شرق المتوسط، وهي منطقة شديدة الحساسية لكنها غنية، وستكون المعبر الأساسي للطاقة في المستقبل القريب.
إن تركيا، باعتبارها طرفًا أساسيًا في المنطقة، تواجه كل الطموحات الفرنسية عبر بوابة اليونان ، البلد العضو في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب إسرائيل، التي تُعد العنصر الأساسي في المنطقة، وتمتلك كميات كبيرة من الغاز، ومصر التي تتوفر ايضا على احتياطات كبيرة منه .

من هنا، يفهم إلحاح فرنسا على لبنان وحرصها على ألا تُزعزع إسرائيل أمنه واستقراره، باعتباره بوابة محتملة لها في المنطقة لخلق توازن مع تركيا.
ستحتاج فرنسا إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، التي تعاني من خلاف مزمن بين المغرب والجزائر حول الصحراء، من خلال حسم موقفها ازاء هذا النزاع واختيار دعم المغرب.
إن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الأخيرة لمصر وخيبة أمله منها؛ تأتي في هذا السياق ، إذ سمع من الرئيس عبد الفتاح السيسي كلامًا لم يعجبه، حيث قال هذا الأخير : “نسعى للاستقرار في المنطقة بعدم التدخل في شؤون الدول أو محاولة زعزعة استقرارها ووحدتها”، متمنيًا من الجميع العمل على ذلك، وهو ما اعتبر رسالة ضمنية لتبون بشأن ما يحدث بين بلاده والمغرب.كما أن الجزائر تدرك بأن التوازنات الاستراتيجية لاحتياطات الغاز ستكون في منطقة شرق المتوسط وليس في جنوبه، مما سينعكس على سوقها التي لن تظل أساسية .
فرنسا بدورها تدرك خبايا الأمور في المنطقة ، اذ اصبحت لديها ، وفق التصورات التي اشتغلت عليها، قناعة أكثر من أي وقت مضى بأن المغرب هو البوابة الأساسية لخلق التوازنات في المنطقة المتوسطية الجنوبية ، لأن الجزائر سيكون بامكانها افشال الطموح الفرنسي إذا ما استعملت أوراق الوضع في مالي وليبيا وحتى تونس ، مما يجعل المغرب محورا مركزيا في التصور المستقبلي الفرنسي للمنطقة .
تحمل زيارة ماكرون للمغرب أيضا أهمية اقتصادية ، حيث لا يخفى على أحد أن فرنسا تسعى لاستعادة مكانتها في المغرب، التي تمكنت إسبانيا من بسط نفسها فيه خلال السنوات الأخيرة، وبالتالي من المتوقع أن يكون هناك تنافس فرنسي-إسباني شديد.
لقد غيرت إسبانيا في اذار ( مارس) 2021 موقفها من قضية الصحراء لصالح المغرب، لكن يجب ألا ننسى أن فرنسا سبقتها في ذلك واتخذت خطوة عام 2007، أيام الرئيس جاك شيراك، حيث كانت الدولة الوحيدة في العالم آنذاك التي تبنت علنًا طرح المغرب المتعلق بالحكم الذاتي.
سيكون المغرب ملزما بالتعامل مع التنافس الاقتصادي الإسباني-الفرنسي بتوازن، نظرًا لأن كلا الطرفين يدعمان قضية وحدته الترابية، وهذا انتصار دبلوماسي كبير للملك محمد السادس الذي سبق أن قال: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”.
إلى جانب كون زيارة ماكرون للرباط تتجاوزالبعد الفرنسي-المغربي إلى أبعاد إقليمية ودولية.يجب أيضا ألا ننسى أن جميع الرؤساء الفرنسيين الذين تعاقبوا على الحكم ، كانت لديهم مشاكل مع المغرب، بدءًا من شارل ديغول، الذي عرفت العلاقات في عهده مصاعب جمة جراء اغتيال المعارض المهدي بنبركة فوق التراب الفرنسي . ولم تنتعش العلاقات إلا مع وصول جورج بومبيدو إلى قصر الإليزيه، حيث حدث نوع من التقارب الحذر.
بيد أن الانفراجة الحقيقية في العلاقات لم تتحقق إلا مع مجيء فاليري جيسكار ديستان ، التكنوقراطي اليميني . ثم جاء اليساري فرانسوا ميتيران ، الذي كانت لديه مواقف مسبقة عن المغرب ، وعرفت العلاقات مع الرباط في بداية عهده حالة جمود غير معلن حتى زار المغرب عام 1984 مما أعطى نفسا جديدا ذا طابع تعاوني اقتصادي ، حيث دشن إلى جانب الملك الحسن الثاني سدا كبيرا في منطقة الأطلس المتوسط انجز بتمويل فرنسي .

في المرحلة الثانية من عهد ميتيران عرفت العلاقات انتعاشا قبل ان تعرف انتكاسة جديدة لاسباب عدة . وفي عهد شيراك وصلت العلاقات إلى أوجها بحكم العلاقات الشخصية التي ربطته بالملك الحسن الثاني . واستمر الأوج نفسه مع نيكولا ساركوزي .ومع مقدم عهد فرانسوا هولند جمدت العلاقات بين البلدين لان الإعلام المغربي اعتبره “جزائري الهوى” ، لاسيما وانه زار انذاك الجزائر وجرى استغلالها إعلاميا من طرفها. وذلك قبل أن يصبح هولند في منتصف ولايته أكثر تقربا من المغرب .
لقد روى لي الوزيرالاشتراكي المغربي السابق عبد الكريم بنعتيق ما أسر له به هولند بعد مغادرته قصر الاليزيه ، حينما قال له انه عندما كان يتجه نحو الجزائر يتلقى انتقاداً شديدا من المغرب وحينما يتوجه الى المغرب يتعرض لانتقاد شديد من الجزائر.
مع مجيء ماكرون رأينا كيف كانت علاقته مع المغرب خلال ولايته الاولى ، إذ وصلت في السنوات الثلاثة الأخيرة الى حد القطيعة .
ولئن كانت علاقات البلدين قدعرفت منذ استقلال المغرب عام 1956 ،بتقلبها ومنقلباتها فإنها تبقى مسارا عاديا جرى التعود عليه ، ذلك أنها لم تكن قط قوية وفي الآن ذاته لم تكن قط ضعيفة ،إذ عرفت مطبات قد تطول وقد تقصر . ولا يتحكم فيها الاختيار الأيديولوجي لساكن الاليزيه . بينما ظلت مرجعيتها هي اتفاق لاسيل سان كلو، ورشدتها في مرحلة لاحقة المصالح المشتركة والتعقيدات الجيو – استراتيجية سواء كانت طبيعتها إقليمية نظرا لقرب المغرب من أوروبا، أو ذات طبيعة كونية ، والكل هنا يرى كيف أن العالم يغلي وكأنه تحت مرجل .

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button