قراءة في إشكاليات الدولة الحديثة
مفهوم الوطن هو أحد مفاهيم المدنية الحديثة، وكان من المفروض أن يساهم في الدمج الإجتماعي. لكن، في عالمنا العربي، سواء اليسار أو اليمين أو الإسلام السياسي أداروا ظهورهم لهذا المفهوم لأنه في كلتا الحالتين كان يتم إقصاء الآخر المختلف فكريا أو دينيا أو إيديولوجيا وهذا سبب كافي لفشل المشروع.
فمفهوم الدولة وشكلها في الوقت الراهن وحتى في فكرنا العربي المعاصر لا زالت معالمها لم تتضح بعد، فما هو شكل الدولة الذي يمكن أن تكون عليه بعد الظاهرة الفيروسية، وما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها لنشكل نواة أولى لبناء هذه الدولة وإيجاد فهم مشترك لفك التناقضات وتوحيد الموقف وفض الخلافات. إذن ما هي العلاقة أو النقاط التي تجمع أو تفرق بين الدولة الوطنية والدولة الدينية كبداية لفك لغز هته التنائية؟
جل التيارات الإيديولوجية مدعوة الآن لنقاش جدي وجريء، حوار علمي وبناء، لتحديد مفهوم الدولة الحديثة أو المدنية والتقاءها أو تقاطعها مع التشريعات الدينية.
وفي خضم هذا السجال العقيم الذي ساد لقرابة القرن بسبب حساسية زائدة أحيانا لدى البعض من مفهوم الدولة المدنية وعلاقتها بالدين وأيضا قضية النفور من الديمقراطية وإلصاقها دوما بالعلمانية، نحاول أن نجمع كل هته الإنقسامات ووجهات النظر المتفرقة داخل مفهوم الدولة الوطنية وهي الدولة ذات المدلول الشامل، فيه الوطن أولا والديمقراطية أساس الممارسة السياسية، واحترام الأديان، وكل ما عدا دلك فهي أمور ثانوية يمكن إرجاعها لاختلافات جزئية لكنها لا تعني شيئا أمام مصلحة الوطن.
في الإسلام وأصول الحكم يقول علي عبدالرازق: ” الدين بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة ومن عزة وقوة.” وفي تحليله للعلمانية يرى أنطون فرح : ” أولا إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية، ثانيا الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم ، ثالثا ليس من شؤون السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية، رابعا ضعف الأمة واستمرار ضعفها نتيجة جمعها بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، خامسا استحالة الوحدة الدينية.” بالمقابل ودفاعا عن الخلافة والدولة الدينية يذهب رشيد رضا في كتابه الخلافة أو الإمامة العظمى إلى القول: “أجمع سلف الأمة وأهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن ينصب الإمام أي توليته على الأمة واجب شرعا لا عقلا.”
كما أن الدين لم يبث في الشكل الذي يمكن أن تقود به الدولة لكن ركز على ضرورة تحقيق العدالة والمساواة والشورى واعتبرها راسخة وثابتة ولا تتغير ولا تتبدل. وترك شكل الدولة للزمان والمكان والمتغيرات، كما عرف التاريخ الإسلامي فصل السلط الثلاث التشريعية، التنفيذية والقضائية.
عرف الإسلام والمسلمين أيضا نظام البيعة وهو بمثابة عقد اجتماعي يجمع الناس فيما بينهم وعلاقتهم بالحكم، حيث بني هذا النظام على أساس العدالة والمساواة وكذلك الشورى حيث قال أبو بكر الصديق “إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني” ، وهذا دليل على نجاعة هذا الرابط بين الحاكم والمحكومين وتواصله.
لا جدال في أن أول عقد اجتماعي عرفه التاريخ الإسلامي تحقق يوم دخل النبي الكريم أرض المدينة حيث تحقق أول شكل من أشكال الدولة حيث تعايش الناس جنبا إلى جنب داخل إطار دولاتي.
فالكثير من المقاربات التي تناولت مفهومي الديني والمدني في التاريخ العربي منذ عصر النبي الكريم سقطت في فخ التعصب والإيديولوجيات ولم تكن موضوعية بالقدر الكافي لاعتبارات سياسية ومنافع ضيقة، ولم تظهر بجلاء العلاقة الشائكة بين المفهومين وكذا نقط الإلتقاء ونقط الإنفصال بينهما.
فالعمل بموضوعية وبوعي علمي دقيق بعيدا عن السجالات العقيمة، سيمكن المثقف والعام من فهم الأمور بالشكل الصحيح ويساعدنا على وضع قاعدة صلبة لبناء ممارسة سياسية سليمة تتماشى وطموحات الشعب الساعي إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية والعيش الكريم.