لأن معايير تقييم الإعلام أصبحت في وقتنا الحالي تتشكل كما يتشكل العجين الطيني تبعا لمتطلبات “البوز” وتحولات “الموضة”، كان لابد من أن نعرف ماهو الإعلام، إذ أن مجرد تغيير مفهوم الإعلام سيغير تلقائيا مفهوم المنظومة الإعلامية ككل ومن المؤكد ستتغير معها رسالة الإعلام أيضا، وهذا ما قد يخلخل الصورة النمطية للإعلام ويحولها من رسالة توعوية إلى رسالة غرضية تخدم شخصا معينا أو أجندة معينة ولا تخدم الرأي العام أو حرية التعبير الذين خلق الإعلام من أجلهما في الأصل.
إن الإعلام في مفهومه البسيط والعميق هو عبارة عن كلمة زائد صورة زائد صوت، فالكلمة ترص المعلومة بدورها الوظيفي للقارئ أو المتلقي بصفة عامة، أما الصورة فتوثق الحدث كما تضفي عليه من المصداقية والتأريخ اكثر أحيانا من الكلمة نفسها. والصورة تضغط في اتجاه التاثير على المتلقي، لهذا، وإلى وقت غير بعيد، أصبحث الصورة تطغى بشكل ملحوظ عن الكلمة، وخصوصا فيما يعرف وما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي أو السوشيال ميديا، حيث أصبحت الصورة هي الكلمة والكلمة مجرد تعليق..!. وبهذا يكون الإعلام التقليدي تمخض عنه ما يعرف ب “الإعلام الجديد” ، أما أنا شخصيا فيروق لي أن أسميه: ( أنت الإعلام)، عوض إسم الإعلام الجديد.
إذ أن كل ذا حساب على السوشيال ميديا أصبح صحفي نفسه، فهذا يعلن عن تظاهرة في مكان ما والآخر يوثق حادثة سير وذاك يلتقط صورا لحريق في أحد الأسواق، ومنهم من ينشر مقطعا من ندوة ثقافية أو اخرى سياسية… إلخ. “أنت الإعلام”، بالنسبة لي، او كما يسمونه إعلام السوشيال ميديا، لم يظهر إلا بعد أن فقد القارئ ثقته بالإعلام ككل، فإذا كانت الدولة تسيطر بشكل أو بآخر على الإعلام بموجب تواجد جرائد حزبية سياسية، فقد القارئ ثقته بالإعلام .
وإذا كان الصحفي يعاني من قمع لحرية الصحافة، وإذا تمت معاملة الصحفي باستبلاد ومنع من حقه في المعلومة، وقدم المعلومة مبتورة، فقد القارئ ثقته بالإعلامِ. وإذا كان الإعلامي يخدم أغراضه الشخصية او يخدم اجندات معينة ويقدم ما هو مدفوع له بقلم مأجور، فقد القارئ ثقته بالإعلام… ولذلك لن نستغرب إذا اتجه القارئ لصنع إعلامه الخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيره..
وعلى إثر كل ما سبق ذكره، فإن الإعلام التقليدي تجاوز النمطية من الجرائد الورقية التفصيلية إلى الميديا الإختزالية من جرائد إلكترونية و سوشال ميديا. لكن هناك نقطة أساسية تغافلنا عنها، وهي ان المعلومة قد تضيع مع موضة ” المختصر المفيد”، وذلك لكون بعض التفاصيل قد تكون اهم من المعلومة نفسها التي ينتظرها القارئ أو المتتبع بلهفة، وهنا وجب علينا كإعلاميين احترام القواعد الست لكتابة الخبر الصحفي ( ماذا، متى ، من، وأين، ولماذا، وكيف)، وهذا ما قد لا يستطيع توفيره مجرد مقطع فيديو أو صورة دون التفاصيل، كل سيفهمها على نحوه!. إن مع ضغط الوقت وعجز القارئ عن قراءة المقالات المكتوبة، أصبحت الأخبار مثل الوجبات السريعة، والتي أسميها ب “طاكوس بريس”. تلك الأخبار التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ويكتب في آخرها كلمة “يتبع” أو جملة “انتظرونا مع التفاصيل”، ولا تفاصيل تذكر بعد ذلك، هي اخبار وقتية قد تسد الجوع أي نعم لكنها ليست صحية بالمعنى المطلوب ولا تحترم شهية القارئ.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى الحقيقة نحن نهتم بالإعلام يوميا لكننا نظلمه كثيرا، إذ لا يجب علينا في الحقيقة أن نقول إعلام بل وسائل الاتصال، إذ تتكون وسائل الاتصال أو التواصل من اربعة عناصر أساسية: وهي الإعلام والدعاية والإعلان والعلاقات العامة. أما الإعلام فهو يتعامل مع الفكرة والخبر والمصداقية لتنوير الناس،وهذا هو الأصل في الإعلامي، أما الدعاية فتتعامل مع الكم الهائل من الإعلان الدعائي وليس الإعلامي. الإعلام إذن يمارس بطريقة صحيحة فهو يخدم رسالة التنوير، لكن ما نتعامل معه يوميا هو الدعاية وليس الإعلام، ولذلك نحن أسرى لكم هائل من المؤسسات الإعلامية التي تشتغل باحترافية عالية وتحاول أن تضلل الناس وتجههم توجهات لا تنسجم مع خدمة ومصالح مجتمعاتهم، وهذا يعود الى بحث هذه المؤسسات عن موارد مالية، فتجدها تبث مقاطع فيديو واخبار تقدم من خلالها محتويات تافهة كأن تجعل من الحمقى والعاهات مشاهير ونجوم للميديا.
ولكي نفرق بين الإعلام والإعلان، أول شيء يجب فك الارتباط بين ما يسمى بالإعلام وبين الدعاية، إذ أن ما نتعامل معه 99 في المائة دعاية وليس إعلام. فالعملية الاتصالية معتمدة على وسائل الاتصال او التواصل وهي وسائل الإعلام المعروفة المنقسمة الى المقروءة الورقية من كتب وصحف وجرائد ومجلات، والسمعية من إذاعة وملحقاتها، والبصرية من تلفزيون وسينما والوعاء الاتصالي الجديد الأنترنت. وعليه، ونظرا للظروف الزمنية والفكرية التي يستقي منها الإعلام، وفي ظل تسارع التطور التكنولوجي والأخبار السريعة والمختزلة، والتي أطلقنا عليها إسم “طاكوس بريس”، فقد أصبح الإعلام بنوعيه التقليدي والجديد، متقادما ومتجاوزا إلى حد كبير، رغم ان السوشيال الميديا طغت بشكل كبير على الإعلام التقليدي، بل وأوشكت أن تحتل مكانته بشكل ملموس، رغم كونها قد تمرر أخبارا مغلوطة ومعلومات واهية سواء بقصد أو عن غير قصد، ومحتويات تافهة معتمدة على عدد المشاهدات التكسبية او ما هو معروف بعبارة (الجمهور عايز كدة)!!. فهل الجمهور حقيقة يريد هذه التفاهات مع تغييب للنخبة المثقفة أم أن الإعلام يساهم بشكل كبير في تتفيه الجمهور ومن ثمة تكون بضاعتهم ردت اليهم فيحصل إعلام الطاكوس بريس على جمهور تافه بفضله؟!.
وهنا يجب العودة الى نقطة وسائل الاتصال والتي عندما نستخدمها بشكل إيجابي في المجتمع يمكن القول عنها أنها وسائل اعلام اما اذا استخدمناها لتضليل الناس فنقول عنها وسائل دعايه وبمعنى آخر إذا استخدمناها لكسب الأموال وتسويق السلع والبضائع نقول عنها وسائل إعلان، اما اذا استخدمناها بالشركات والمؤسسات والدول فنقول عنها وسائل العلاقات العامة.
وبصراحة فهذه حقيقه يغفل عنها 95 في المائة من الذين يعتقدون انهم يعملون بوسائل الاتصال. وإذا ما دققنا النظر فنحن اصلا نشتغل بالاتصال وليس بالإعلام، فالدعاية لا تخاطب العقل اما الاعلام فيخاطب منطق الانسان وعقله لأنه يعتمد على ما هو منطقي وما هو صحيح، أما الدعاية فتخاطب الغرائز والعواطف ثم من خلالها يتم التأثير على عقل الإنسان فيندفع بالمواقف والغرائز والآراء.. ان العملية الاتصالية لم تعد كما كانت في السابق، فسابقا في زمن أرسطو وابن خلدون كانت العملية الاتصالية تضم مرسل ورسالة ومرسل إليه، لكن اليوم صارت في ظل التكنولوجيا العملية الاتصالية على شكل دائرة تشبه سلسلة غذائية، بحيث تبتديء الرسالة من المرسل وتدور عبر المرسل اليه او المرسل اليهم ومن ثم تعود للمرسل نفسه. كما أن المرسل والمستقبل يتبادلان الادوار فترسل الرساله وتستطيع الحصول على فيدباك feed back ثم ترسل رساله اخرى من جديد وهكذا دواليك..
لذلك فان مساله تطوير الاعلام تطرح سؤالا يكاد يكون فلسفيا، بحيث يجب التساؤل اذا ما كان تطوير الاعلام رهين بتطوير وسائل الإعلام نفسها كما وسبق الإشارة، ام أن تطوير الإعلام مرتبط بكيفية تقديم هذا الإعلام وإلى من؟!، او ربما ان الإعلام يحتاج بالأساس إلى دعم مادي ومعنوي، أو كل ماسبق في الوقت نفسه؟! لذلك عندما تغير مفهوم الإعلام تغيرت معه المنظومة الإعلامية فاصبحت الرسالة مادية أكثر منها أخلاقية، ثم لذلك تغير مفهوم الرسالة الصحافية نفسها.. فمثلا الشركات لن تنشئ مواقعها وحساباتها على الانترنت حبا في الناس، بل فعلت ذلك من اجل الوصول الى الناس بعضها أهدافها نبيلة وبعضها ليس نبيلا، لكن المهم ان تصل الى الناس بشكل او باخر. والكل يعلم أنه لحد القرن 20 كانت الصحافة تخاطب قادة الرأي والنخب والمثقفين.. إذن كانت تخاطب القليلين آنذاك وهم النخبة من القراء فكان أغلبية الناس اميين لكن على وعي وإدراك، ثم بعد ذلك قلت نسبة الأمية شيئا فشيئا فظهر المذياع او الراديو فاصبح الانسان رغم انه شبه امي يستطيع الاعتماد على اذنيه لمعرفه الاخبار ثم بعد ذلك ظهر التلفزيون الذي يعتمد على أربعة عناصر وهي الصوره والحركه والصوت واللون.. بمعنى الفرجة والمتعة والاستفادة في نفس الوقت، وهو ما يجعل المقال الخبري سواء المكتوب او السمعي البصري أكثر شدا لانتباه الجمهور وأكثر تحفيزا للمتابعة. رغم ان التلفزة اكتسحت الساحة الخبرية فقد ظل المذياع يصارع ويقاوم من أجل المواكبة إلى يومنا هذا، وله عشاقه ومستمعيه..
وهو شبه ما حدث مقارنة بالتلفزيون والانترنت، وكذلك الجرائد الورقية والجرائد الإلكترونية. مقترحات لتطوير وتحسين الإعلام: لتطوير وسائل الإعلام يجب تعزيز قدرات المؤسسات والأفراد في ما يخص حرية التعبير والتعددية وتنوع وسائل الإعلام، وكذلك شفافية ملكية وسائل الإعلام، ولن يتحقق ذلك إلا بحصول المقاولات الإعلامية بدعم يناسب مجهوداتها قياسا على نشاطها في الساحة الإعلامية وبديلا عن ما تنتهجه بعض المنابر الإعلامية من صحافة تكسبية تنشط في ما ينضوي تحت “اللامشروع” حيث تفقد معه مصداقيتها وشفافيتها.
أقول هذا لأن لتطوير وسائل الإعلام دورا فعالا في ترسيخ الديمقراطية بشكل عام وخاصة في الخطابات الديمقراطية الفعالة، وذلك من خلال دعم وسائل الإعلام الحرة والمستقلة في دعم تطوير وسائل الإعلام سواء ماديا او معنويا وعادة ما يدعم المانحون الدوليون وبقية المنظمات الأخرى وسائل الإعلام كجزء من دعمهم العام لتطوير الاقتصاد الوطني والديمقراطية ويشمل الجهد النموذجي لتطوير وسائل الإعلام المستقلة. كما وان الدعم المادي للمقاولات الصحفية سيساهم بشكل ملموس في تعليم الصحفيين وتدريبهم في جو نقي ونزيه وأخلاقي كما ستوفر لهم المشورة الصحيحة والسليمة لتحسين البيئة القانونية للإعلام.
أيضا بدعم مادي أو من غيره سيستطيع طلاب الصحافة الاستفادة من التدريب لمحو الأمية الإعلامية؛ وكذا التدريب على الإعلام الإلكتروني وكيفية إدراجه والتعامل مع الرقمنة والتصاميم الصحفية ايضا، فقد نحصل بذلك على صحفي ميداني وتقني في نفس الوقت من اجل مواكبة المطبات التي تفرضها علينا احيانا صاحبة البلاط. كما يجب تطوير مهارات الصحفيين الجدد تحت إشراف الصحفيين القدامى وإفادتهم بدورات تكوينية محلية ووطنية مع مراقبة وتقييم المساعي والمجهودات للطرفين للارتقاء بهذا القطاع.