أخبارتقارير وملفات

القمم الصينية الخليجية العربية هل هي خطوة نحو عالم متعدد الأقطاب

وفق التفكير الاستراتيجي السعودي الجديد لم يعد هناك حلفاء استراتيجيين تقليديين للسعودية، بل هناك عدد غير محدود من الحلفاء الاستراتيجيين، تماشيا مع التغيرات الدولية، والتغيرات في الداخل السعودي، التي تمر بتحولات جذرية، وفي نفس الوقت لا تهدف السعودية إلى الابتعاد عن أي حليف استراتيجي مهم، لكنها تتوقف عند تصور حليف تقليدي يود أن يملي شروطه على السعودية وعلى المنطقة، ولدى السعودية مرونة عالية تقيم علاقاتها مع جميع القوى الدولية، بعيدا عن أي تأطيرات ضبابية، أي أنها مستقلة وندية في تعاملها مع جميع القوى تبحث عن تحقيق مصالحها ومصالح دول الخليج والعرب.

 من المهم أن الاستراتيجية السياسية السعودية الجديدة نجحت في جعل الشركاء الاستراتيجيين يتنافسون على السعودية،في نفس الوقت هي لا تصطف إلى أي محور، لكن السعودية بتلك الاستراتيجية تتحوط لتحقيق مصالحها التي رسمتها لتنويع اقتصادها، وبعيدا عن الطاقة، فإن السعودية ترى في الصين شريكا مهما جدا في تطوير صناعات متقدمة تتماشى مع رؤية 2030 التي وضعتها والتي تتواءم مع مبادرة الحزام والطريق.

الاعتقاد السائد في المنطقة أن الولايات المتحدة الضامن التاريخي لمنظومة الأمن الإقليمية، قد تقلص، خصوصا بعد تقليص أمريكا التزاماتها في المنطقة، كالانسحاب من العراق وتسليمه لإيران، والانسحاب المفاجئ من أفغانستان وتسليمه لطالبان، لتهديد دول الجوار، لكن دول الجوار تعاملت مع الواقع واحتوت طالبان، وفي نفس الوقت تحول تركيز اميركا بشكل أكبر إلى منطقة الإندو-باسيفيك.

 ورغم بقاء أهمية المنطقة مصدرا أساسيا لسوق الطاقة العالمي، ترى دول مجلس التعاون الخليجي أن أولويات الولايات المتحدة الاقتصادية والجيوستراتيجية لم تعد متركزة في المنطقة، كما جاءت آخر الضربات لتلك الشراكة التاريخية في أكتوبر 2022 عندما خفضت أوبك بلس بقيادة السعودية مليوني برميل يوميا بسبب الركود الاقتصادي الذي يعاني منه العالم بسبب الجائحة والحرب الروسية في أوكرانيا، اعتبرتها الولايات المتحدة خطوة ترقى إلى الاصطفاف مع روسيا، لكن السعودية لم تكترث لهذا الاعتقاد الذي اعتبرته ضغطا أمريكيا عليها، بل أكدت للولايات المتحدة أنه قرار اقتصادي بحت وليس سياسيا، واختارت المجموعة يوم الأحد 4/12/2022 الإبقاء على مستويات خفض الإنتاج نفسها.

رغم ذلك اجتاز التحالف الأميركي – السعودي منذ بداياتها في نهاية الحرب العالمية الثانية عواصف كثيرة على مدار العقود، لكن ظلت العلاقة قائمة بسبب أهميتها لكلا الطرفين، وستظل العلاقة طالما أن الديناميكيات الإقليمية على ماهي عليه، وطالما أنها معرضة المنطقة بشدة للهجمات العسكرية من أذرع إيران المنتشرة في المنطقة بسبب أن الصين غير ضامن أمني، لكنها قد تحقق الأمن للسعودية من خلال دعم التصنيع العسكري، وتوطين التقنية التي لم تحصل عليها السعودية من الدول الغربية.

ومن ثم باتت دول الخليج اكثر استعدادا لتعزيز علاقتها الاقتصادية والتجارية مع الصين كشريك استراتيجي، خصوصا وأن 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ تمثل ثلث الاقتصاد العالمي ونحو 2.1 مليار نسمة بعد ثمان سنوات من المفاوضات وقعت مع الصين اتفاق  الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في 2020 من بينها حلفاء الولايات المتحدة كاليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا وهو أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم، حتى أن الرئيس الصيني بعد مراسم التوقيع قال يظهر بوضوح أن التعددية هي الطريق الأمثل، ويمثل الاتجاه الصحيح لتقدم الاقتصاد العالمي والبشرية.

 مشهد يعكس عمق التحولات في البيئة الاستراتيجية الدولية التي لا تريد دول الخليج أن تغيب عن التكيف مع حقائقها، ودول الخليج والصين لا يريدان أن يكونا خارج سياق هذا الاتجاه، وهو يرسخ طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية الأوسع،إذ أنه يعد بديلا تقوده بكين لمبادرة واشنطن التجارية التي لم تعد مطبقة، مع ذلك العلاقات الخليجية الصينية تعد كجزء من المعادلات الجديدة بين دول مجلس التعاون الخليجي والحليف الأمريكي -الغربي في قضايا الأمن والدفاع، مختلفة عما كانت عليه في العقود الماضية، وهو ما جعل أربع وزراء خارجية من دول مجلس التعاون الخليجي إلى الصين في العاشر من يناير 2022 بجانب أمين عام مجلس التعاون الخليجي.

 حاول مسؤول كبير بالخارجية الأمريكية التقليل من أهمية زيارات المسؤولين الخليجيين، قائلا مؤكدا أن لكل دولة حقا سياديا في اتخاذ القرارات بناء على مصالحها الخاصة، وأن الولايات المتحدة تظل ملتزمة بشراكاتها في الخليج، لكن الولايات المتحدة تتخوف أن تفقد معها ورقة ضغط على الصين، أو تفقد هيمنتها القائمة منذ عقود على المنظومة الجيوقتصادية في منطقة الخليج بشكل خاص وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وهو ما يضعف موقفها أمام المنافسة مع الصين الذي كان في اسيا  فيصبح أيضا في منطقة الخليج الاستراتيجية، حيث تدرك الولايات المتحدة أنه من الصعب الفصل بين التجاري والجيوستراتيجي، فبعد شراكة اقتصادية بين دول المجلس والصين اليوم تصبح جزءا لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق الصينية.

وجيوبولتيكيا يعطي السعودية مساحة أكبر للمناورة في علاقتها مع واشنطن ويضعها في موقف تفاوضي أقوى، ومع ذلك لا يأتي هذا الموقف من دون تكلفة، إذ ان لدى السعودية وبقية دول الخليج شكوكا فيما يتعلق بعلاقة الصين الاستراتيجية مع إيران، وإن كانت هي خطوة تشجع إيران على تغيير سلوكها الأيديولوجي تجاه الاقتصاد خصوصا في ظل الاحتجاجات العارمة التي تضرب البلاد، بل فرصة للاندماج في منظومة دول الخليج الاقتصادية خصوصا وأن السعودية عبر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رحب بإيران أن تنضم إلى رؤية السعودية 2030 التي تود أن يكون الشرق الأوسط شرق أوسط أوربي.

بدأ الرئيس الصيني زيارته للسعودية الأولى منذ عام 2016 في 7/12/2022 يشارك خلالها في قمتين خليجية وعربية يحضرها قادة هذه الدول، لكن تتابع الولايات المتحدة هذه الزيارة في بشان قضايا تتراوح بين سياسة الطاقة والأمن الإقليمي وحقوق الإنسان، وتنظر الولايات المتحدة التي تواجه الصين كقوة منافسة لها بعد زيادة العجز التجاري الذي زاد 5.5 في المائة إلى 78.2 مليار دولار في أكتوبر 2022، وأمريكا في مرحلة مواجهة روسيا في أوكرانيا التي تقوم بحملة عسكرية من أجل التحول إلى عالم متعدد الأقطاب بعد مرحلة تحاول الصين وضع قواعد تجارية جديدة لنظام عالمي تجاري جديد، فتنظر أمريكا إلى أن السعودية الوحيدة القادرة على قيادة تحول نحو عالم متعدد الأقطاب، لكن السعودية لا تفكر كذلك بل تنظر إلى تعزيز تحول اقتصادها إلى اقتصاد متنوع.

 وهو ما جعل الولايات المتحدة ترسل مندوبيها السياسيين إلى السعودية لكشف حقيقة هذه الزيارة وتأثيرها على مكانة الولايات المتحدة في المنطقة وتأثير ذلك على العلاقة الاستراتيجية التقليدية، وإن كانت تدرك الولايات المتحدة أن السعودية مدركة لعدد من التحولات التي حدثت في مثل تلك العلاقة الاستراتيجية التقليدية، أهمها أن الولايات المتحددة حققت استقلال نفطي ولم تعد منطقة الخليج مهمة لها كما كانت، رغم انها تبقى منطقة الخليجمهمة كموقع استراتيجي، وفي نفس الوقت أصبحت السعودية الشريك الأكبر والأول للصين في غرب آسيا وشمال افريقيا، وتمكنت في السنوات القليلة الماضية من أن تصبح المصدر الأول للنفط إلى الصين متفوقة على روسيا الجارة الشمالية والشريك الاستراتيجي للصين، فقد صدرت في نوفمبر 2021 ما معدله 1.8 مليون برميل منخفض من 2.06 مليون برميل من أصل 3 مليون برميل من دول الخليج، وحجم التبادل التجاري بين السعودية والصين أكبر بكثير من نظيره مع الولايات المتحدة التي تعد أكبر شريكا استراتيجيا للسعودية إذ بلغ 37 مليار دولار منها 24 مليار دولار صادرات السعودية إلى الولايات المتحدة مقابل واردات 13 مليار دولار في 2018.

بل تتم توسع العلاقة بين السعودية والصين بشكل ديناميكي، ويعزز ذلك الاتفاق على بناء مركز بتروكيماويات ضخم في مقاطعة شاندونغ بشرق الصين، حيث تتركز 26 في المائة من طاقة التكرير السعودية في الصين.

لذلك التوجه نحو الصين ليس مشروعا سياسيا بحتا، ستظل علاقة السعودية مع الغرب والشرق موجودة، لكن العلاقة المميزة مع الصين ستعزز نفوذ السعودية وأهميتها الاستراتيجية إقليميا ودوليا مع تحجيم التحديات التي تمارسها الولايات المتحدة بشكل خاص تجاه السعودية، ومحاولة ابتزازها، وبشكل خاص في ملف حقوق الإنسان، ومنذ مجئبايدن البيت الأبيض ألغى صفقة الطائرات إف 35 لدولة الإمارات ثم تراجع عنها، ألحق هذه الخطوة الخاطئة بخطوة سحب صواريخ الباتريوت من السعودية التي كانت تحمي المنشآت الحيوية في السعودية وبشكل خاص المنشآت النفطية،مما شجع حلفاء إيران في اليمن الحوثيين القيام بإرسال مسيراتهم إلى السعودية ودولة الإمارات، لكن السعودية نجحت في تحقيق تهدئات إقليمية متعددة دون الاعتماد على الولايات المتحدة، نجحت في إيقاف إرسال مثل هذه المسيرات، وفي نفس الوقت حجمت تحكم أمريكا بالموقف السياسي في المنطقة، رغم أنها تدعي إرسال مندوبين إلى اليمن لحل الأزمة سياسيا، واستبقت أمريكا زيارة الرئيس الصيني عبر تصريحات للمتحدثة الإقليمية للخارجية الأمريكية هالة غريطمن أن بايدن عمل ليلا ونهارا لإنهاء الأزمة الإنسانية في اليمن، والكونغرس يسعى لحل دبلوماسي.

ابتدأت العلاقات بين السعودية والصين في نوفمبر 1985، لكن اعتبر عام 1988 بداية العلاقة التجارية الفعلية بين البلدين وفي عام 1990 تم تفعيل العلاقة الدبلوماسية رسميا، فشكلت زيارة الملك سلمان حفظه الله عام 2017 إلى بكين التي جاءت عقب زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض عام 2016، وتم توقيع الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وعلى هامش زيارة الملك سلمان لبكين وقع الطرفان اتفاقيات بأكثر من 65 مليار دولار.

زيارة الرئيس الصيني للسعودية علامة فارقة للعلاقات الصينية السعودية الخليجية العربية، ويستضيف الزعيم الصيني ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان العازم على التعامل مع نظام عالمي مستقطب بغض النظر عن رغبات حلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ما يمثل استعراض للقوة كزعيم عربي طموح خصوصا وأنه يجتمع برؤساء وحكام عرب من أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لحضور القمة الصينية العربية، ما يعني أن السعودية تعمل وفقا لحسابات استراتيجية بوجوب استيعاب بكين الصاعدة كشريك اقتصادي لا غنى عنه، وبذلك ترسم السعودية سياسة خارجية تخدم تحولها الاقتصادي في زمن العالم أو الغرب بشكل خاص يحاول الابتعاد الهيدروكربونات التي تعتبر حتى الآن شريان الحياة في السعودية.

خصوصا وأن الظروف الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة التي قادتها السعودية خلال المرحلة من 2016 وحتى اليوم أنها مسار يقود إلى التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، خصوصا وأن الجانبين باتوا مقتنعين بان المشهد الجيوسياسي محفز على التوصل بين الجانبين لتحقيق هذا الاتفاق التي انطلقت منذ عام 2004، باعتبار أن دول الخليج تقدم فرصا واعدة للصين بالنسبة لموارد الطاقة الرئيسية التي تحتاج الصين إليها لمواصلة صعودها الاقتصادي، بجانب الاستفادة من الموقع الاستراتيجي لدول الخليج بالنظر إلى انها صلة وصل للتجارة بين آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى رؤية دول مجلس التعاون الخليجي إلى مبادرة الحزام والطريق التي طرحها الرئيس الصيني عام 2013 باعتبارها مفيدة لتعميق الاستثمارات مع الصين في مجال التمويل والطيران والبنية التحتية والطاقة المتجددة والاتصالات، يلبي الطلب المحلي فحسب، بل يسمح أيضا لاقتصادات دول المجلس بالاندماج في سلاسل التوريد العالمية.

 فتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول الخليج قد يشكل خطوة استباقية لتحويل منطقة الخليج إلى مركز التجارة الصينية لعقود مقبلة، ويثري المقومات الاستراتيجية للعلاقات بين الجانبين، ويسهم في تسريع وتيرة الانتعاش الاقتصادي في الجانبين، حيث زادت معدلات التجارة بين الجانبين من 90 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 178 مليار دولار عام 2019 وفقا لبيانات البنك الدولي، وبين السعودية والصين ارتفعت من 3 مليارات دولار عام 2000 إلى 78 مليار دولار عام 2019 ارتفعت إلى 87.3 مليار دولار في 2021.

 فيما بلغ حجم التبادل الصيني العربي نحو 330 مليار دولار في 2021، ورغم أن الولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين، فإن حجم التبادل التجاري بين الجانبين 586 مليار دولار في عام 2020 لا تتجاوز الصادرات الأمريكية عن 70 مليار دولار ثم ارتفع إلى 48 في المائة ليصل إلى 116 مليار دولار في عشرة أشهر في 2021 من أصل إجمالي 470 مليار دولار بين الجانبين.

             

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button