أخبارالرئيسيةثقافة و فن

منابر النور

رأيتُ فيما يرى النائم أني اخوض معك معركة ضارية في احدى الساحات الغارقة في نور القمر المنعكس على السيوف والدروع.

كنتُ أرى نفسي وأشعر وكأني وسط تلك المعركة الطاحنة، أقاتل بجانبك يا عزيز.. و هذا ليس بالامر المستغرب فلطالما كنت لي السند، و في كل وقت و حين شددت عضدي، و كانت صحبتك عنوانا للتمكين و النصر المبين.

ان ينصركم الله فلا غالب لكم.

و كنا نحن الاثنين نحمل سيوفًا طويلة مشرعة في الهواء، و كنا في مواجهة اكبر طاغية على وجه الارض، لا ابالغ.. بل اكبر و افجر ظالم عرفه التاريخ.

بقلم/ د. مهدي عامري

و لم تكن المعركة مجرد اشتباك بالاجساد، بل كانت صراعًا بين قوى الليل و النهار، و كانت الأرض تهتز تحت ارجلنا، اما صليل السيوف فكان يتردد في الأفق كأنه نداء صارخ يمزق السماوات.

وقف عزيز بجانبي، و سيفه يشق عنان السماء ، و طفق يقاتل بضراوة، كأنه أسد هصور لا يعرف الخوف. و كان يحمي ظهري، وكان بيننا نوع من التفاهم العميق الذي لم نكن نحتاج معه للكلمات. ورغم أن الطاغية تمكن في لحظة غدر من إصابة صديقي بجرح بليغ، إلا أن عزيز لم يتراجع، بل ازداد إصرارًا وعزمًا.

و رأيت الجرح ينساب منه الدم كأنه شلال متفجر، ولكن، وبشكل مفاجئ، تلاشى الالم و معه انمحى الجرح كفص ملح ذاب في الماء.. سبحان الله.. كأن قوة غامضة أعادت لعزيز حيويته ونشاطه، فعاد إلى المعركة أقوى مما كان.

لم اصدق ما رايت بام عيني. يا ربي! هل احلم؟ هل انا في معترك الواقع ؟

تعجبت مما رأيت، وكأنني أشهد معجزة تتجسد أمام عينيّ، أو كأن إرادة السماء ترفض لعزيز اي هزيمة.

و استمر القتال حتى خارت قوى الطاغية، وتحول المشهد فجأة، وانقلبت الرؤيا إلى ضباب كثيف، كما ان أصوات المعركة خفتت، ووجدت نفسي أستيقظ في سريري مرتعدا متصبب الجبين مرتعش الاطراف، و وجدتني أتذكر كل تفاصيل الحلم بدقة وكأنها أحداث عشتها حقيقةً.

و كانت الرؤيا تبدو أكثر من مجرد حلم عابر، كانت أشبه برسالة، بمغزى، بإشارة من عالم الغيب.

شعرت بحيرة يتسلل دبيبها إلى اعماق صدري، أهو تنبيه من القدر أم مجرد طيف من الخيال، أو لعله تعبير عن القلق الكامن في نفسي تجاه عزيز ؟

و في صباح اليوم التالي، سارعت إلى الاتصال بعزيز، و رويت له ما رأيت، وإذا به يبتسم ويقول: “هذا ليس إلا حديث عقلك الباطن و ربما هو نزغ من الشيطان فتعوذ بالله من ابليس، لا تشغل بالك، فأنا بخير.”

و رغم كلامه لم أستطع التخلص من القلق الذي لازمني طوال اليوم.

” كفى من القلق. لا داعي. لدي فكرة. اسمعني جيدا..”

اقترح عليّ عزيز أن نذهب لزيارة الشيخ عبد النور، و هو رجلٌ روحاني طاعن في السن قد نيف على التسعين، يعيش في خلوة نائية بين الجبال ، بعيدًا عن ضجيج العالم، و عرف عنه بين أهل البلدة الحكمة و رجاحة العقل و نفاذ البصيرة.

لطالما سمعت عن الشيخ عبد النور قصصًا غريبة، حيث يقال إنه يرى ما لا يراه الآخرون، و انه يهيم في الملكوت، و انه يرى في المنام احداثا تتحقق في مسرح الواقع و انه يقرأ المستقبل بطرقٍ غامضة لا يفهمها أحد.

شعرتُ ببعض التردد، فأنا من الأشخاص الذين يتجنبون أمثال هؤلاء الروحانيين، خاصة عندما تذكرت قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “من أتى عرافًا وصدقه لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا.” ولكن صديقي أصر قائلاً: “لن نذهب لطلب معرفة الغيب، و لا اعتقد ان الشيخ عبد النور عراف بل اظنه من اولياء الله..و لعل حديثه يلقي بعض الضوء على هذه الرؤيا التي تؤرقك. لا تتردد. تعال معي.. “

و وجدتني بعد حوار طويل أوافق، متسائلًا في نفسي: ما الذي يمكن أن يعرفه او يحدسه هذا الرجل؟

و ارخى الليل بسدوله على المدينة، و انطلقنا في رحلة إلى الجبل حيث يقيم الشيخ عبد النور. و كان الطريق وعرًا، صعودًا وهبوطًا بين المنحدرات والسهول الضيقة التي يكتنفها الضباب وتغطيها أشجار البلوط المعمرة، وكأنها في حد ذاتها تحكي قصصًا من زمن سحيق.

وصلنا عند غروب شمس اليوم الموالي، و كان قبس ضعيف من النور ينسحب ببطء، تاركًا المكان مسربلا في هالة من الغموض.

و كان الكهف الذي يقيم فيه الشيخ عبد النور بسيطًا، يعبق بالبخور، و كان يخيل لمن ينوي دخوله انه مشرع الباب.. و كانت ثمة شعلة صغيرة من النار تلتمع في المكان، و تكاد لا تميز في نورها الملامح.

خلعتُ نعلي عند المدخل، ودلفتُ مع عزيز، و كانت قدماي تتشربان برودة الأرض، و خامرني احساس اني ادخل إلى عالم آخر ملؤه السكينة المضمخة برائحة أعشاب الجبل.

نظر إلينا الشيخ عبد النور بعينين لامعتين، عميقتين كبحرٍ لا يُدرك غوره، ولم يتفوه بكلمة واحدة في البداية، بل اكتفى بالابتسام.

ثم أومأ لنا بالجلوس، وبعد لحظات من الصمت، أخرج من كيس صغير ثلاث حبات من التين، و قدّم لكلٍ منا حبة، محتفظا بالثالثة. وقال: “تذوقوا فاكهة الجنة. و التين و الزيتون و طور سينين”.

شعرتُ بشيء من التردد، فأنا لست ممن يأكلون من يد الغرباء، لكني أردت احترام طقوس هذا الرجل. وضعت التينة في فمي، وإذا بحلاوتها تملأ فمي. يا الهي انه مذاق فردوسي لم أشعر بمثله من قبل، و كأن الفاكهة من قطوف الجنة.

رمانا الشيخ بنظرة طويلة جدا و سالنا : “هل تعرفان منتهى الحلاوة؟”

بحلقت في وجه عزيز ثم نظرت إلى الشيخ وقلت: “لا، لا أعرف.” ابتسم ابتسامة عميقة، وقال: “منتهى الحلاوة هو أن يصل العبد إلى مرحلة من الصفاء يتذوق فيها طعم الروح، حينذاك تذوب كل أمور الدنيا، وتفنى في حب الواحد الاحد.”

و سكت الشيخ دقيقتين، ثم شخص ببصره نحو السماء وقال: “هذه الحلاوة هي ما تجعل الناس يجتمعون على حبٍ صادق، لا مصلحة فيه، و لا مال ولا جاه، انه الحب لله وفي الله.”.

و صمتَ لبرهة، ثم أكمل: “المتحابون في الله جالسون في الجنة على منابر من نور، و هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله… ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).”

شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، و كانت كلماته تنساب إلى روحي كأنها ماء بارد زلال يتغلغل في صحراء عطشى و يسقي كل ذرة و كل حبة من رمالها التي لا تحصى.

و فهمت من حديثه أن هناك رابطة تجمعني بعزيز، و انها ليست رابطة الأخوة او الصداقة ، بل وصال الروح مع الروح، و هو نوع من التواشج يسمو فوق كل الروابط ، و يتجاوز حدود المكان و الزمان.

و مرت ساعة و نحن جلوس نرخي السمع لهدير الشلالات المحيطة بالكهف. ثم تناول الشيخ الحبة الثانية من التين، ووضعها في كفه، قائلاً: “هذه التينة هي الصدق مع النفس، أن تكون ما أنت عليه، لا ما يريده الناس منك.”

ثم اخذ الحبة الثالثة و شطرها نصفين و ناولنا اياهما، وقال: ” التينة الثالثة هي المعرفة. أن تعرف طريقك، مهما كان وعراً أو موحشاً، و أن تظل على دربك حتى النهاية.”

يا الهي ! عجيب غريب هذا الشيخ. انه يذكرني بمولانا جلال الدين الرمي حين يقول: “من يبحث عن الحقيقة في الخارج، سيظل ضائعًا، لكن من يبحث عنها في الداخل، سيجدها تنتظره.”… و يذكرني أيضًا بابن عربي اذ يقول: “العالم فيك لا في الخارج، فانظر في نفسك لتعرف أسرار الوجود.”

و انا اتلقف هذه الكلمات كما يمتص الرضيع العطشان من امه قطرات اللبن بدا لي أن الرحلة إلى هذا الشيخ لم تكن لأجل تفسير حلم أو معرفة معنى، بل كانت رحلة نحو أعماقي أنا، رحلة في داخلي، لأكتشف من أنا وماذا أريد من هذه الحياة. حينذاك أدركت أنني لم آتِ لأسمع من الشيخ عبد النور، بل لأسمع من نفسي.

نهضنا استعدادًا للرحيل، وإذا بالشيخ يمد يده إليّ بسبحة، ويقول لي: “هذه لك. و لله الاسماء الحسنى فادعوه بها. سبح ربك بالعشي و الاشراق و حين تشتد الظلمات، ففي الذكر نور ساطع يكشف لك الطريق.”

وضعت السبحة في جيبي، كأنني أحمل كنزًا ثمينًا، وقلت في نفسي: “ليس النور في السبحة، بل في طاقة التسبيح المتولدة منها.” و فهمت أن حبات التين التي أعطانا إياها الشيخ عبد النور ليست مجرد فاكهة، بل هي رموز لرحلتنا الروحية في هذه الحياة: حلاوة الحب في الله، وصدق المرء مع نفسه، ومعرفة الطريق حتى في أصعب الظروف.

خرجنا من عند الشيخ عبد النور ونحن نحمل في قلوبنا نورًا على نور، و شعرت أنا شخصيا اني أصبحت أخفّ من الريشة و اني احلق بروحي في عنان السماء، و كأن هموم الدنيا التي كانت تثقل كاهلي قد تبخرت، و كان عزيز بدوره يبتسم كالذي اكتشف امرا جديدا يجربه للمرة الاولى في حياته.

عزيز.. لقد فهمنا الرسالة.. و هذا على الاقل ما اظنه.

الهي لا تخيب ظني!

نحن عابرو الاحلام نحو ملكوت الواقع. و اكبر معاركنا تلك التي نخوضها كل يوم ضد جيوش الظلام التي تكاد تبتلع أرواحنا.

انا وانت لسنا سوى محاربين في ظلال النور، نحمل سيوفًا من ضياء، ونقف ضد طواغيت النفس الامارة بالسوء و التي تسكن في اعمق جزء من ذواتنا.

لم يكن اللقاء بالشيخ عبد النور حدثا عاديا لكنه مثل لنا نقطة تحول، وكأننا عبرنا به بوابةً إلى مرحلة جديدة من الفهم. لم يكن مجرد زيارة لشخص يدّعي الحكمة، بل كان لقاءً مع جزء مخفي من ذواتنا. فكل كلمة قالها الشيخ و كل إشارة، و كل تمتمة و همهمة صدرت عنه كانت كالمرآة التي تعكس لنا حقيقة ما بداخلنا.

ومع كل هذه الأفكار التي تدافعت إلى ذهني كالسيل الجارف، شعرت بشيء من الطمأنينة، و لم أعد أخشى الأحلام، بل لم أعد أرى فيها سوى انعكاس لحقيقة أعيشها. فعزيز الذي ظهر في الحلم، والذي وقف بجانبي، كان أكثر من مجرد رفيق في المعركة، و كان رمزًا لذلك الجزء مني الذي ساندني في السراء و الضراء، كان رمزا لكل انسان ينهض بعد كل سقطة، و يقاتل رغم الألم، و يرفض الهزيمة حتى لو كان الجرح بليغًا.

تعلمت من اللقاء بك يا شيخي أن الأصدقاء الحقيقيين هنا ليعكسوا لنا أفضل ما فينا، و هم من يدفعنا إلى الأمام حين نتراجع، و هم من يحمل معنا السيوف حين نكون على وشك الاستسلام.

وقبل أن أنهي تدبيج هذه الكلمات، فتحت القرآن في موضع الآية التي تقول: “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”.

صدق الله العظيم.

شعرت أن ما رايت فيما يرى النايم قبل ثلاثة ايام كان دعوة لأتأمل في قلبي، و لأتأكد من سلامته و من صفائه.

قبلت المصحف الشريف و اغلقته، وأغمضت عيني، ووجدت نفسي أعود إلى تلك اللحظة أمام الشيخ عبد النور، عندما أعطاني السبحة وقال لي: “هذه لك، سبح ربك حين تشتد الظلمات.”

و فهمت حينها أن هذه الظلمات ليست ظلمات الليل، بل هي ظلمات النفس، تلك اللحظات التي نفقد فيها الأمل، و التي نشعر فيها باليأس، و التي نكاد نستسلم فيها للظروف.

في تلك اللحظات، يجب أن نتسلح بالذكر و الفكر، و أن نستيقن أن هناك نورًا جميلا بداخلنا، و انه نور يمكنه أن يكشف لنا الطريق حتى في أشد لحظات الظلام.

وفي اليوم التالي، ذهبت إلى عملي وأنا أشعر بأني مولود جديد. لم يعد كل شيء كما كان، حتى نظرتي إلى العالم تغيرت. شعرت أني أرى الناس بشكل مختلف، و اني أرى في كل شخص معركة يخوضها، و جروحًا يحاول أن يخفيها، وأفراحًا صغيرة يتمسك بها ليواصل حياته.

و تذكرت قول الرومي: “الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور.”

نعم، الجروح التي نحملها هي التي تجعلنا نتعلم، و هي التي تفتح أعيننا على حقيقة ذواتنا. و دون هذه الجروح، و دون هذه المعارك، لن نعرف طعم الحلاوة، ولن ندرك معنى الصدق، ولن نهتدي إلى طريق المعرفة.

أدركت أن الشيخ عبد النور لم يعطنا شيئًا خارجيًا، بل كان يعيد إلينا ما هو موجود في داخلنا، و ما كنا غافلين عنه.

و نظرت حينها بعين القلب الى الحياة و تبين لي أن كل رحلة في الخارج هي في الحقيقة رحلة في دواخل الروح

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button