إعداد/ عبدالرحيم شمسي
مع ظهور علم الاركولوجيا في القرن التاسع عشر وإبتكار تقنيات التأريخ بالكربون المشع وتوفر بيانات مناخية جديدة ساهمت في توفير معطيات علمية رصينة أعطت أجوبة لعلماء الاثار لحل ألغاز تاريخية حيرت العالم.
(غوردن تشايلد 1892-1957 Gordon Childe)،عالم آثار إهتم بدراسة الثورة الزراعية في الثلاثينيات من القرن الماضي،درس المجتمعات القديمة وركز على مرحلة الإنتقال من مرحلة الصيد وجمع ثمار الأشجار الى مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان وكان ذلك قبل 4000 ألف سنة قبل الميلاد أو أكثر.
إهتم الباحثون بالثورة التي غيرت تاريخ البشرية، فالزراعة تحكمت في مسار الشعوب القديمة لأنه كان تغييرا ولم يكن اختراعا، فمن أجل البقاء بدأ الناس في زراعة حبوب الأعشاب البرية وتناولها مع جمع النباتات لغرض الغذاء.
لكن علم الاثار تطلب ظروف جيدة لحفظ اللقى الأثرية، والاعتماد على عمليات تنقيب جد بطيئة مع استخدام غرابيل دقيقة جدا لاستعادة البذور الصغيرة، مع الحاجة إلى فريق عمل جماعي كل حسب وظيفته.
كان (روبرت جون بريدوود 1907-2003 Robert John Braidwood) خبيرا في علم التسلسل الزمني، طرح هذا الأخير سؤالا أين وجد الإنسان القديم ؟
الأعشاب البرية التي يمكن زراعتها؟
للاجابة على سؤاله توجه الى موقع أثري جبلي يقع في شمال الشرق الأوسط خاصة شمال العراق(موقع جرمو Jarmo).
عمل (روبرت جون بريدوود Robert John ) على إجراء عمل بحثي منظم مع عقده شراكات مع علماء وخبراء مختصيين في علم النبات والحيوان والجيولوجيا والإركولوجيا لدراسة التفاعلات بين الشعوب القديمة وبيئتهم.
موقع (جرمو jarmo) ضم اثنى عشر طبقة كلها كانت مأهولة بالسكان، كما عثر على حوالي 25 منزلا طينيا مشيدة فوق أسس من الحجارة وأعتقد العلماء ان القرية المكتشفة كانت تضم حوالي 150 شخصا.
ومن خلال تجميع أجزاء الأشياء واللقى وإعادة ترتيبها نجح فريق العمل الى الوصول الى الإنسان القديم قد زرع نوعين من القمح والعدس، مع تدجينه للماعز والأغنام، لكن مع الخبرة التي اكتسبها عالم الاثار (روبرت جون بريدوود Robert John) خاصة في علم التسلسل الزمني توصل إلى أن أقدم التواريخ التي وجدت تعود إلى حوالي 7000 آلاف سنة قبل الميلاد.
واستخلاص النتائج العلمية المعتمدة على الكربون المشع اتضح أن الزراعة كانت راسخة هناك بالفعل في تل (جرمو jarmo).
لكن ظل (روبرت جون بريدوود Robert John ) شغوفا بالتنقيب و البحث عن البدايات الأولى لاكتشاف الزراعة فتوجه الى تل (شايونو Çayönü) الواقع في جنوب شرق تركيا، فاكتشف أيضا قرية يعود تاريخها الى مايين 9400 و 7200 سنة قبل الميلاد، ليدرك بعدها أن الانتقال من مجتمع جمع الثمار والصيد الى مجتمع الزراعة أمر جد معقد وتطلب وقت أطول مما كان يعتقد.
وفي فلسطين قامت (كاثلين كينيون 1906 -1978 Kathleen Kenyon) بعملية تنقيب في مدينة (السامرة Samarie) بحيث كانت لها خبرة في تحديد الطبقات الأثرية المليئة بأجزاء متكسرة من قدور الطبخ، وبما أن مدينة (أريحا Jericho)موقع توراتي ومنطقة محصنة في العصر البرونزي، قامت كاثلين بحفر موقع (السلطان Tell es-Sultan) من خلال هذا الموقع جمعت مجموعة من العيينات فحصلت على نتائج مبهرة من خلالها تبين ان الموقع كان يضم بدوره سبعون منزلا حوالي 8350و7300 قبل الميلاد، وكان سكان البلدة مزارعين يسكونون بيوتا مستطيلة مبنية على أسس حجرية، جل الأعمال الحفرية التي قامت بيها كينون كانت حفرا عموديا على شكل خندق مما كان يسهل عليها معرفة تفاصيل حياة كل من استقر في المدينة، وتكشف عن التغييرات التي طرأت في المجتمعات القديمة.
كل العمليات الحفرية والتنقيبية (لكينيون )أكدت نفس فرضيات بريدوود التي كانت تقول ان بدايات الزراعة ولكن تكن عملية قصيرة المدى بل كانت طويلة ومعقدة وانتشرت في عدة أماكن قبل 11 ألف سنة قبل الميلاد.
نفس النتائج حصل عليها عالم الاثار البريطاني (أندرو مور Andrew Moore’s) في تل المستوطنة سنة 1973-1972، أما موقع (أبوهريرة Tell Abu Hureyra) فقد قدم ما كان علماء الاثار يبحثون عنه،حيث بينت الأبحاث الميدانية التي شهدها الموقع وجود قرية زراعية اعتبرت أهم القرى الزراعية حيث يعود تاريخها الى 10 آلاف سنة قبل الميلاد.
بموقع (أبو هريرة Tell Abu Hureyra) إستقرت عائلات في منازل حفرت إلى مستوى قليل من الأرض وسقفت بالقصب، عاش سكانها على تناول الأعشاب والحيوانات البرية مثل الظباء وغزلان الصحراء، وقدر علماء الاثار عدد سكان القرية حوالي 300- 400 شخص ومن خلال نتائج الأبحاث التي توصل بها علماء الاثار فسكان هذه القرية رحلوا منها جراء تعرضهم لموجات مستمرة من الجفاف. أما عالم النباتات (غوردون هيلمان Gordon Hillman) فقد قام بجمع بقايا النباتات من الطبقات الأرضية، وغمر بعض التربة الغنية بالبذور في المياه، وعمل على تجفيف المناخ فأصبحت النباتات تتراجع مما يرجع فرضية استمرار الجفاف لمدة طويلة عانى منها السكان حيث أصبح عليهم لزاما السير مسافات طويلة لجمع الأعشاب الصالحة للأكل.
ويقدر الخبراء ان عمليات استتبات الأعشاب البرية استغرق مابين 1000 و 2000 سنة،كما رجح علماء الآثار أن فترات الجفاف التي استمرت طويلا في تلك العصور هي التي دفعت الشعوب القديمة الى الزراعة لمواجهة الجفاف وندرة الاعشاب البرية،حيث عمل القدامى على زرع الحشائش البرية فكانت البداية مع حبوب الجاودار ثم القمح والشعير وبعد مدة تحولوا إلى مزارعون يدجنون الحيوانات،واعتمدت زراعتهم على الامطار والتوقيت الدقيق حتى لا تتلاشى محاصيلهم الزراعية.