من الحروفية إلى التعبيرية بالفحم..التوثيق الإبداعي الرائد في معرض”تناقض 24″
أعطت دولة العراق للمجتمع العربي والعالمي مبدعين مشهود لهم بالريادة نذكر من بينهم: ضياء العزاوي، عامر العبيدي، جبر علوان، عماد الطائي، أحمد غريب، سلمان عباس، هاني مظهر، راكان ديدو، علي الجابري عباس، اسعد عباس، كلحي نعمت، نائل حنا، عبير الخطيب، منير العبيدي، عبده مسلم المرشدي، رسول المرشدي، خالد ابراهيم، احمد كاظم، عمر حمدي، عاصم رحيمة، علي أمين الطائي، عادل ناجي، غازي المسعودي، محمد خميس، سنان حسين، فائق حسن، مراد ابراهيم، علي الموسوي، فاضل البغدادي، دهام بدر، كاظم حيدر، محمد حمدان، سمير محيي البياتي، دهام بدر، هاشم علي، حسن عبود، باسل العبيدي، صادق طعمة، حسام عبد المحسن، صلاح جياد، محمود فهمي، مؤيد محسن، كريم الوالي، هاشم الطويل، حيان عبد الجبار، سعيد شنين، علا بشير، محمد فرادي، علي عبد الكريم، نوري الراوي، حميد الحمير، يسن عطية، مجيد الموسوي، سلام جميل، هاني مظهر، سلمان شلهو، خضر جرجيس، عبد الأمير الخطيب، وداد الأورفلي، شاكر الألوسي، علي بدر، عماد داوود، أحمد الشهابي…
فيض من الأسماء البارزة التي لمعت الصورة التشكيلية والبصرية للأنامل العراقية أغلبهم عاش أو جرب الاغتراب ولوعة الهجرة، بعضهم عاد للوطن الأم وآخرون لازالوا في ديار المهجر يزاولون مهامهم الإبداعية.
وأياد الموسوي من بين هذا الزخم المثمر والمفيد، الذي أثرى الساحة الإبداعية ببصمات متفردة بوأتهم المكانة المستحقة داخل وخارج الوطن، والخوض في هذا الاتجاه لن يسعفنا في هذه الورقة الخاصة والمراد تركيزها على فناننا: إياد الموسوي، الذي عاشر المهندس العراقي محمد مكية، والكويتي: غازي سلطان، وصادق رافع الناصري وشاكر حسن سعيد والنحات: اتحاد كريم والفنان عامر العبيدي واللائحة طويلة من معارفه وزملائه وشركائه في ركوب موجات الهم الفني والإبداع الخدوم للفرد والمجتمع، للمتاحف والساحات…
هذا السرد العابر ماهو إلا تعبير صريح عن المكانة المرموقة التي احتلها الفنان: إياد الموسوي في مجال الفنون التشكيلية وهو السلم الحجري الصلد الذي اعتلى أدراجه لينتقل من العمل على الحروفية السابحة في الفضاء التجريدي إلى التعبيرية والواقعية المرموزة بلمسات تخصه بعينه ويتفرد بها عن غيره في معرضه الحالي: تناقض 24.
ونحن نرى بالملموس أن هذا التطور المهني تولد بحق من تجربته المطولة في رسم الجداريات حيث تصطبغ التجربة بانزياح لوثة الوهم النرجسي الذي يطبع شخصية أغلب مبدعي العالم، إذ يصبح الفنان أمام فضاء رحب مغاير للورشة والمرسم، يخرج من ضيق المساحة إلى رحابة المكان. يتغير السند من ورق مقوى أو قماش إلى حائط خشن يحبذ فهم أبجديات الاشتغال عليه، وحيث الفرش تصبح أكبر وأثقل والتركيز مشتت والجمهور المختلف المشارب والمدارك والمزاجات يتدخل معلقا بالسلب والإيجاب: مشجعا أو مهينا، مثلها تجربة تعود المبدع على تحدي الصعاب وتخرجه من انطوائيته حيث التعليقات المفتوحة والمفاجآت المنتظرة، ومن ثم يفعل موهبته بإخراج معينه لاستقطاب أوجه النظر المختلفة القادرة على إخفاء هواجس الخوض والتردد وتصبح العملية الإبداعية: سفر إنساني فريد ومثمر يعود النفسية المبدعة على التآلف والانفتاح الذي افتقد خلال سنوات الاغتراب في المهجر. هذا الشعور الملتبس على الفهم الذي لا يعيه إلا من اختبره وجربه وكابد ويلاته…
من زمن بعيد جدا، ذأب العامة على ترديد المثل الشائع : ”من لم يجل لم يعرف الرجال” والواقع أثبت صحة المثل، لكن قد يسري عند تحويره بتسليطه على الفن، من لم يجل كفنان ما عرفه ولا تعرف على فنه الرجال.
وانطلاقا من الإرث الفني العالمي، ونخص بالذكر هنا: مجال الفن التشكيلي على وجه الخصوص، نلاحظ أن أغلب فطاحلة الفن التشكيلي الذين جالوا واغتربوا،هاجروا أوطانهم وتكبدوا معاناة الجولة مزودين بزاد المعرفة والولع بعبق الفن المرتكز على التخطيط والتلوين أو الحفر والتجسيم، استطاعوا أن يؤثروا بحق في تاريخ الفن، خاصة الحديث منه والمعاصر، فبيكاسو ودالي هاجرا إسبانيا ليحققا مبتغاهما المنشود في فرنسا من المغاربة : ابن يسف، المليحي، الشعيبية طلال، محمد القاسمي، بلامين… وقس على ذلك في العديد من البلدان التي أينعت زنابقها التي وصفت بأيقونات الفن أو أساتذة الإبداع في مجالهم بمجرد هجرة أوطانهم سواء عادوا إليها بعد الاغتراب أم لا.
وبهذا نكون قد علمنا أن الترحال، التجوال، واكتشاف بلدان الغير، بما فيها من تحصيل مدارك ومعارف تخص البلدان المستقبلة لمجموع الأنامل الفنية التي أشرنا اليها ولو في عجالة، تعطي للمبدع بحق: نفسا جديدا وترفع من شأنه، وتضعه في المنزلة المستحقة دون منازع أو جدال، وهذا ما حدث مع المبدع الخلاق العراقي الأصيل: اياد الموسوي، الذي أقام أزيد من 25 معرضا شخصيا في العديد من البلدان، نذكر من بينها: دبي (1994- 2002- 2007-2020-2021-2022) بغداد (2019-2023) كندا كيبك (الى او تاوا) (تورنتو) والمغرب (أصيلا)
أكمل دراسته بكلية الفنون الجميلة بجامعة كونكودي يا بكندا، ثم الطباعة بمونتريال الكندية، حيث حصل على جائزة الفنان المتميز في ولاية كيبيك عام: 1992، وعلى منحة روس و وفرميت حيث أقام في مركز بانف لولاية البرتا في كندا…
وما إن نعرج على مسميات معارضه: (تجليات الشوق والتعلق ”معرض بمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافيه” 2012، أحلام الفجر ”قاعة حوار بالوزيرية ببغداد” 2019”، تجليات العشق ”جداريات في زمزي غالري2020 ”، وحدة الروح في رحاب الطبيعة ”زمزي غالري- دبي2012”، ذكريات بغدادية ”قاعة حوار الوزيرية- بغداد” 2022، حنين ”قاعة ذا غاليري بغداد 2023”، ذكريات الهجرة ”مؤسسة سلطان بن علي العويس للثقافة بالاشتراك مع الرائد العراقي : عامر العبيدي 2018 ”). تناقض 24 (المغرب).
نجدها موسومة بالعواطف الجياشة التي تعتري أي مهاجر مرتبط بوطنه الأم اذ الحنين والأحلام والطقوس الطبيعية وعبق التراب. ما هي إلا ارتسامات لا تكاد تمسح من الذاكرة الفردية والجماعية، لأنها جزء لا يتجزأ من الروح المبدعة المغامرة من أجل الوجود واحياء الأمل في هوايتها وغوايتها، والرغبة الملحاحة لرصد كل الصور والمشاعر العابرة المنمحية والمترسخة في كينونة الفرد، والتي يتشارك معه الفنان في تقاسمها والتألم من أثارها السلبية المحفورة في الذاكرة والنفس، وهذا النبل الشعوري لا يمكن تواجده إلا عند فنان أصيل: رهف الاحساس قوي الملاحظة قابل للتفاعل مع الأحداث والوقائع وتصويرها بشكل إرادي أو انفعالي حسب الظروف الخاصة بالعملية الإبداعية التي تجوب نفسية المبدع، كذا الزمان والمكان لما لهما من قوة التأثير في اللحظة الخاصة بالركون الى محراب الخلق والإبداع.
أعمال: إياد الموسوي في معرضه المسمى: تناقض 24 فضاء خصب للبحث والتقصي ومجال رحب للدراسات النفسية والاجتماعية ومدخل واعد لكشف الواقع السوسيولوجي المترتب عن آفة السياسة ومعضلة التعاطي أو الانفلات من أثارها القبلية والبعدية على نفسية الفنان كفاعل في المجتمع برمته لأنه الفضاء الأوحد المراهن عليه، الموجوب إيلائه الأهمية القصوى لرد الاعتبار لرواده والفاعلين فيه من شتى المشارب والاتجاهات
أعمال أياد الفنان الحر الطليق، مرتع لكشف المستور في عالم الترميز والإشارات، موطن موسوم بالإحالات المجلاة من الذاكرة والمغلفة بالإيحاء تارة والحفر الغائر البين في أخرى، فأعماله الإبداعية تعتبر بالنسبة لي: ديوان قصائد ثورية من الخطوط والألوان، راصدة للانفعالات القوية، متماهية مع الوجود بما هو موجود وهي كناية أخرى وتعبير مواز لكتاباته النصية، التي تركها لأجيال الغد لتنهل من معينها وترشف من عبقها الإبداعي والتاريخي.
إياد الموسوي: ما هو إلا مؤرخ حديث في التاريخ المعاصر شاء بعبقريته ان يقص ويحكى، يصور ويحفر، يرصد ويؤرخ ما لا يهتم به الكل في زمن الضياع، حيث ثقافة التفاهة تغلب وتستشري، والإنهزامية تسيطر على الذواة الخانعة باستهلاكيتها ودخولها مربع التقزيم والتحجيم والمحكوم عليها بالموت البطيء او الانتحار اللا إرادي.
مع إياد من خلال أعماله الطباشيرية السوداء لا يمكن الخلوص الى قرار واحد ولا الجنوح لمنحى واحد، إلا رفض الواقع المر، نبذ الإنهزامية، والصمود أمام الواقعي كيف ما كانت قتامته وسواده، ما دامت الروح طاهرة وانقى والقلب صلب كالحجر: مقاوم صبور قادر على درء الصعاب وتطويعها للخلوص إلى المنجى، حيث الخيال الرحب سيد متسيد على العقول إلى ما لا نهاية، وبه يكون الطموح يسود ولا يساد عليه، يتحقق ولا ينمحي والتاريخ خير شاهد على ما نرمي اليه ونؤيده
إياد الموسوي في معرضه الحالي يرحل بنا إلى مدارك لا تخطر على بال، يخطو بتراتبية حثيثة ليدخلنا عوالمه المنفتحه على التأويل والإستقراء، فضاءات عولت على اللون الأسود واعتمدت عليه بإصراره ألا تزيغ أبصارنا على المحتوى، بضياعها بين متاهات جمالية الألوان واستلاباتها، لأنه يود أن يحصرنا في بوثقة واحده لنستشف طيب كينونته، عرقه المتصبب وهو يمتهن مهنته وولعه ويحارب الفضاء الأبيض للسند بحركاته العنيفة أو الوديعة أو لمساته الخفيفة أثناء ترميد جزء أو للظلال، لأنه مهووس بإخراج الفكرة للوجود متماشيا مع المبتغى إيصاله وإفهامه وقد حصل دون عناء او تكلف.
هذا الشموخ الواضح والبين هو الذي مكنه من أن يكون عضوا شرفيا في متحف أغاخان للفن الحديث بمدينة تورونتو الكندية، والدافع لمتحف الفن الحديث وبنك الفن في أوتاوا بكندا، لاقتناء أعماله، إضافة إلى مقتنيات الأفراد والمؤسسات في أمريكا الشمالية، أوروبا وباقي الدول العربية والخليجية، والمحفز لشركة صناعة السيارات الألمانية ”مرسيدس بنز” من اقتناء أعماله وتوظيفها في حملاتها الاشهارية والإعلانات الترويجية لسياراتها.
وبغض النظر عن أعماله التشكيلية الشاهدة بتألقه عالميا، فله عدة دراسات وبحوث في مجال التشكيل العربي والكندي، لكونه دارس متمكن لتاريخ الفن والنقد الفني، فهذا الكائن المستقل الغير تابع لأحد، استطاع أن يجعل من الفن عمله اليومي بسيرورته وحصيلته، ومقتنع كل الإقتناع، أن صولته تظاهي صولة العبقريه الانسانية المتفتحة على العموم بشتى مدارسها، والخدومة للعقل والنفس البشرية، ومن ثم أداة تسجيلية: تنفع التاريخ وتفيد الأجيال المعاصرة والقادمة.
هذا الإرتقاء الفريد الذي انتهجه فناننا بالإعتماد على الفحم والتفحيم ما هو إلا ارتقاء ناذر قلما لاحظناه في تاريخ الابداع العالمي، لكون كل أساتذة ومعلمي فن الرسم اعتمدوه في كل المدارس التشكيلية، وظلت الى اليوم تعتمد على الفحم بكل أنواعه الطبيعي والإصطناعي التجاري كأصابع أو أقلام لتخطيط رسوماتهم الأولية الموجوب اعتمادها والركون لأساسياتها، للتدرج في منظومة بناء اللوحة التشكيلية، حسب المراتب التي يرتئيها الفنان في قطعها للخلوص للتحفة المنتظرة
اعتماد الفحم والتفحيم في الوصول إلى عمل مكتمل كان ولا يزال ينتهج ويعتمد في خلق لوحات التصوير الشخصي المسمى فن البورتريه (l’art du portrait) وصدرت في شأن هذا التوجه عدة كتب اجتاحت العالم بكل اللغات وكانت وظلت من ابجديات العملية التعليمية الموجوب اعتمادها خاصة بالنسبة للفنانين العصاميين الذين لم يتمدرسوا في أقسام ثانوية أو أكاديمية أو معاهد الفنون المعتمدة في مناهجها على التحصيل البصري والتشكيلي.
وفي إطار التجريب الذي درسناه، تعلمناه أو عرفناه من خلال الساحه الفنية العربية أو العالمية أو حتى التجارب الشخصية لنا أو لغيرنا سواء كانوا تشكيليين أو متعاطين له وعرفوا بفنون أخرى غير الرسم كجون كوكتو، غارسيا لوركا وغيرهم… كثير ممن اختاروا وجربوا اللون الأسود والسند الأبيض لتصوير فكرة عبر الحبر الصيني تفاعلا مع المدرسة الصينية الكلاسيكية في إنتاج اللوحة التشكيلية الشرقية التي تمتاز بطابعها الشفاف المتعارف عليه في تقنية الاكواريل وبفرش وورق خاص (رق الأرز أو البردي).
كما نجد أن ثمة تجارب أخرى اعتمدت اللون الأسود كمدرسة واتجاه وأسلوب كالفنان التازي المغربي المرحوم: عبد المجيد الهمص في تجربته التي سماها بالهيمبيكيزم ‘’hembiquisme’’ انتسابا لاعتماده على قلم الحبر الجاف بيك ‘’Bic’’ الذي أصبحت اليوم كوسيلة من وسائل الإبداع مسابقة ومباراة
إلا أننا نقف جد مشدوهين أمام التجربة الفنية الخاصة بالفنان العراقي: إياد الموسوي، إذ يرمينا في أحضان التفكير المستمر وكأنه يريد أن يجعلنا نركز في أعماله ولا نتناولها بطريقة اعتباطية ولا بالسوقية الاستهلاكية، يستوجب الوقوف وقفة متأمل متفكر لاستخلاص المعنى قبل المبنى، فالخطوط والتعاريج والنور والظلال ما هم إلا تقنية معتمدة بإتقان للتعريج على المراد قوله أو الإيحاء اليه تارة برمزية وأخرى بوجوه معبرة واضحة المعالم.
فالممارسة الفنية البصرية عند الفنان العراقي: اياد الموسوي، ليست بتوجيه استهلاكي للجمالية التصويرية الغالبة على أغلب المدارس التشكيلية العالمية، بل هي متح ممنهج من الذاكرة الحية له كفنان يتفاعل باستمرار مع الأحداث والوقائع التي سجلتها ذاكرته وعانت منها نفسيته كمواطن حر تكبد معاناة فردية وجماعية وسط محيطه الذي طبع بشتى طبائع الحروب قبل وبعد فورة الربيع العربي
فهي إذا: أعمال تسجيلية صادقة للمعيش، إذ تتعلق أعماله بأهذاب التوثيق لآلامه وآلام عشيرته أو الوطن برمته، ونفس الفعل والمفعول يسري على العديد من البلدان والأوطان التي اجتاحتهم جائحة التقتيل المخطط له باسم الحروب الحديثة، وليس المراد هنا الخوض في الباعث والمخطط ولا حتى الهدف منها بقدر ما نحن بصدد استقراء أعماله الفنية التي جاءت حبلى ب : رفض الواقع، نبذ العنف عبر تصوير فضاءاته، طبع حالة الإنفعال عبر التوزيعية للجسد والوجوه المعتمدة في عملية التكوين البصري للوحة وهي وجوه من أوجه القراءات المتعددة المستحب الخلوص إليها انطلاقا من الواضح والمخفي في كل لوحة من لوحاته الطاغي عليها: تمزيق الوجوه المشدوهة وتوزيع الجسد والكينونات، تطاير الاشلاء: إنها انشطارية ثابتة وواضحة، قد تكون قراءة أولية متفاعلة مع النتائج الفعلية لقصف وبآلية من آليات التذمير المسلطة على الأرض والأحياء. ومن ثم النفسية والعلائقية، إذ انفطار النفس من الألم والجوع، المسغبة والعطش، البتر والنزيف، كذا تباعد العائلات ونقصان أفرادها من خلال الموت المباغث أو النزوح والابتعاد عن الأهل والأصحاب والمنازل المحتفظة بتاريخ عاطفي نوستالجي متكامل.
مثلها أعمال لا تتوجه للبيوت والمنازل، للقصور الفخمة ولا الفيلات: بل موطنها دور العرض والمتاحف التي من واجبها الاحتفاظ بمثلها أعمال، كونها ذاكرة بصرية حية تستصرخ الواقع وتوثق له، لأنها جزء من التاريخ المرئي الناطق باسم فرد، مجتمع، دولة، كون. بهذا الفرش المنهجي يذكرنا فناننا العتيد بالفنان الإسباني العالمي صاحب الثلاثية المشهورة: بابلو بيكاسو، الذي خلد في أكبر لوحاته: السلام الحرب والجرنيكا التي شاء القدر أن يتذكر العالم إسم الأخيرة وتناسوا اخوتيها في الموضوع والتزامن، لا لشيء إلا لكونها أكثر إيحاء وتذكيرا بفاجعة قرية الجيرنيكا التي أبيدت بشكل منهجي استنكره العالم.
مثل هذه الأعمال الطلائعية التي تضع الفنان ووطنه أمام الأعين القارئة للمعاني والرموز، المستقرأة للواقع من خلال الأحداث المخطط لها عبر الفحم، ما هي إلا بصمة صانع محترف وخيميائي بارع شاءت قريحته أن تفضح المستور والمنسي، إذ الفحم ما هو إلا تفحم لأغصان الشجر، وما نتائج الحروب الا تفحيم لأجساد ونباتات ومخلوقات إن لم تستنفذ قوتها وتعود لأصلها الرماد، ومن ثم تكون عملية الترميد لإعطاء لمسة المنير والمظلم تسمى ترميدا، وبهذا تكون العملية التشكيلية عند: إياد الموسوي مجال إمحاء واستقراء، تسجيل وتوثيق، فلسفة بصرية كاملة ومكتملة، خاصة إذا ما سمحت له الظروف بعبور القارات والدول لعرض أعماله في قاعاتها ومتاحفها: للتعريف بأعماله الناطقة باسمه وباسم الشعب العراقي الذي كابد المرارات وعانى الويلات، وحتى لا ينسى العالم ما حدث: ها هو يسافر عبر الزمن ليؤرخ ببصمة روحية ما عايشه بين ظهراني شعبه الأصيل بتخليد أعمال فنيه ترصد الواقع وترحل به الى مصاف التحفة الفنية الناطقة باسمه وباسم الشعوب المماثلة التي كابدت الويلات نفسيا واجتماعيا…
تجربة إياد وتفاعله مع المدارس والإتجاهات الفنيه الحديثة والمعاصرة لم تجعل منه الناسخ المتوقف في محطة بعينها، بل شمولية التقصي والبحث: جعلته معلمة من معالم الفن المعاصر في الوطن العربي وباقي دول العالم خاصة التي سبق ان عرض أعماله بقاعاتها وكان السبب الفعلي المباشر الذي دفع بأغلبهم لاقتناء تحفه الأخادة
الراصد لتجربته والمتمعن في أعماله الإبداعية حسب مراحل عمره الفني يلاحظ بالملموس: التطور النوعي المحدث في صياغة مبناه الجمالي في كل لوحة من لوحاته، فاللمسة والتكوين، اختيار الألوان وتوزيعها في فضاء السند، تفرز البنية المتمعن في تكوينات كل جزئية من جزئياتها بصريا: تثبت انه متمكن من الإحاطة بتدبير الفضاءات والتقاسيم المكونة للمنتوج النهائي، المعروض على انظار المتلقي في كل الفضاءات الرحبة، قاعات العرض والفضاءات الخاصة بالتواصل الاجتماعي.
التدريج الواضح في تجربته الإبداعية لا يمكن أن يغفلها إلا غافل او ناقص انتباه وقليل بصر وبصيرة، إذ المراحل التي قطعها في تجربته التشكيلية توحي للمتصفح ان الباحث في سيرته العملية بأنه داهية من دواهي اللعبة الجمالية التصويرية، ومثلها قفزات لا تتاتى لأي مبدع كان، إلا عبر الممارسة المستمرة والتجريب المثمر والتفاعل مع الذات والمحيط، وكان قفراته التشكيلية ما هي إلا تعبير صادق على مسيرته الحيوية في ربوع الأوطان، كالنحلة ينتقل بين الزهور والورود ليحط الرحال بفيض تعبيري وزخم تصويري يجمع بين المبنى والمعنى ليكون تحفة تشد الانتباه وتعتقل الأنظار وتشغل الفكر بحثا عن أجوبة أو حل لماهية كل لوحة من لوحاته قاده القدر أن يتوقف أمامها ليقراها وتقراه ويخاطبها وتخاطبه، وهو الحوار الشعوري والعاطفي الموجوب خلقه واحيائه عند كل متلقي وقف وقفة متامل ودارس أمام أعمال فنية رائدة بامتياز.
إن العمل الذؤوب والمسترسل ينسينا دوما المرجعيات المعتمدة في الأغلب لكن قلما تؤتي أكلها بالخلوص إلى عمل فريد أصلي وناذر، اما عند فناننا: اياد الموسوي، فالنتيجة واضحة وما الانبهار الذي يعترينا ويعتري المتلقي المستقبلي فهي الحتمية التي لابد من تحصيلها دون جدال حول أعماله الرائدة في معرض: تناقض 24.
فالخلوص إلى منهج أو أسلوب ليس بالأمر الهين، والعملية تتطلب صبرا قويا واستمرارية متلازمة للمبدع كالمرض، تتزامن مع خطواته في التدريج العملي والتعلم، حيث يكتسي المهارة أو الدقة في التخطيط والتلوين وحصر المرئي في المكون البصري المسمى: أثرا أو لوحة.
أي إبداع من إبداعات العصر الذي يتماهى مع تاريخ الفن في الأغلب أو يتعارض معه في الناذر ليكون رؤية بصرية جديدة تخطف أنظار المتتبع الدارس وهي الخطوة الفعلية المؤثرة في الفن المعاصر والدافع به إلى الرعاية والإهتمام إلى درجة الإحتضان المقدس والجماهيري
إستخدام اللون الأسود ليس ك: غريغور ميكايليان حيث اللطخة واللطخة الموجهة هما الحل لإتيان بعمل فني بل عند اياد الموسوي: التخطيط المبرمج عقلانيا وبصريا حسب الفكرة المراد خلقها والإقناع بمستجدها وجدوى إتيانها من العدم وكانها مخلوق حي جديد يريد التباري حول الأحقية في التواجد والعيش بين ظهرانينا، فإن نجحت الخلاصة حدث المبتغى المنشود وحصل التفاعل، ومن ثم: الإرتقاء باللوحة لمرتبة التحفة المفضي إلى: الإعتراف التفاعلي المقرر بالإحتفاظ بها ضمن التحف الموجوب إعمال العقل أمامها والإحتفاء بمدلولاتها الجمالية الفكرية والبصرية.
كم فقدت من فقيد يا إياد لتركن لهذا الاسود المعبر عن جروحك المثخنة؟ كم من الأقارب والأحباب، الجيران والأصدقاء ورفاق الدرب والمدرسة؟ كم من القسوة شاهدت في عيون الذين نبذوك واحتقروك لأنك دخيل عليهم بعالمك الخاص؟ كم دفنت من الأفكار والأسرار والذكريات إذ تعلمت الرحيل تلو الرحيل؟
كم نكران ذات وصفات وأصول؟ وكم تعلمت من فرار داخل وخارج الكتاب في التقاسيم والممرات، في البيوت والدخان، الإنفجارات وأثار الذمار، البتر والقمع والقتل والتجويع؟ كم درس درستك إياه قساوة الظروف والقرارات الجائرة؟ كيف وصلت لهاته النهاية والحكمة والصلادة الشعورية؟ الغدر أم الخيانة أم خوفا من الزنازل والمقابر الجماعية؟ كم أزمة حصدت في مواطن الرعب التي جفت بها أعينك بكاء وأصابك البكم بعد الصراخ؟ إنك الصرح التعبيري الوحيد الذي علينا التطلع لثنايا خباياه لنحيي كالاسلاف، لتنعتق من عبوديتنا ونطير كالسنونو محلقين في الأرجاء، حيث الحرية والأمان، السعادة والركون لحفاوة الإنسان، حينما تطغى الإنسانية على حيوانيته الملطخة لسمعته ومصيره.
يا من كون بالأسود عالما حرا طليقا زدنا من معين شعورك المسجون بملايير القيود لتنتشي رحابة الفن المنبعث من لمساتك وهي تداعب السند المحكوم بإرادتك ليتحكم في إرادتنا الشعورية: لنتماهى ونذوب في عبق تاريخ الإبداع.