موسكو ـ سامي كليب
خلافًا لطقس موسكو شبه الجيد هذه الأيام مع انخفاض درجات الحرارة على نحو مقبولٍ جدًا، فإن التحليلَ السياسيّ الذي يسمعه الزائر هذه الأيام يبدو قاتِمًا حيال ما ينتظرُ فلسطين ولُبنان وصولاً إلى إيران، ذلك أن القناعة الروسية تبدو وأكثر من أيّ وقت مضى، حاسمة في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يُريد أن يُقدّم أيَّ تنازل، وسيُكمل حربَه راغِبًا باستسلامِ أعدائه في الجانبين الفلسطينيّ واللُبنانيّ مع ضرب إيران وتطويقِها، وأنّ لا مبادرات دوليّة أو إقليمية ناجعة في الوقت الراهن لوقف الحرب على غزة أو لُبنان.
استقبَلنا المسؤول الروسيّ الكبير في مقرّ عملِه العريق في موسكو، عشيّة الضربّة الإسرائيلية الأخيرة لإيران.
كان على يقين بأنَّ الضربةَ قادمةٌ لا محالة، وكلّ ما استطاعت روسيا فعله، هو الطلب من «الصديق بيبي» (نتنياهو)، ألاّ يضرب البرامج النوويّة، أو المقار الحيويّة في بُنية الدولة، لكن الرجلَ الذي بلغ جنونَه العسكري مداه، وتعطّشه للحرب أقصاه، لم يَعِد بشيء.
المسؤولَ الروسي الذي آثر عدمَ ذكرِ اسمه كي يأخذ الحوارُ معَه مساحتَه المهمّة من الصراحة والأسرار، يؤكد أنّ الاتصالات الإيرانية – الأميركيّة لم تنقطع، وأنَّها تواصلت في سلطنة عُمان وعبر أطرافٍ أخرى. وهو ما أكدته لنا أيضًّا مصادرُ مُقرّبة من السلطنة، التي لم تستبعد أن تكون عُمان قد استضافت، في وقت المفاوضات الأميركية – الإيرانية، مسؤولاً إسرائيليًّا كان جالسًا في مكان قريبٍ جدًّا في العاصمة العُمانيّة للتشاور الأميركي الإسرائيلي في سياق المفاوضات الإيرانية الأميركية.
تُدرك إيران وفق الأجواء التي يسمعُها زائرُ موسكو، أنّ نتنياهو وداعميه يضعونها أمام خِيارين، إما التخلّي عما تصفهُ إسرائيل وحلفاؤها بـ«الأذرع الإيرانية» وفي مقدمها حزب الله، أو تعريض النظام الإيراني للاهتزاز والسقوط. وذلك رغم أنّ التعاون بين موسكو وطهران تقدّم كثيرًا ووصل الى حد القبول بتسليم صواريخ S400 ، وفق مصادر دبلوماسيّة أجنبيّة في موسكو متابعة للصفقات العسكريّة.
موسكو علمت مُسبقًا بحرب لُبنان
وكما بالنسبة لإيران، كذلك للُبنان، فإن السفيرة الإسرائيلية في موسكو سيمون هالبرين أبلغت السلطات الروسية منذ تموز/يوليو الماضي الرسالة التالية من نتنياهو: «إما يُطبق لُبنان فورًا القرار 1701، أو أن إسرائيل سوف تجتاح الجنوب وتفتح حربًا واسعة على حزب الله». 📌 لم يأخذ لُبنان ولا مسؤولو حزب الله هذه التحذيرات التي وصلت إليهم على محمل الجد، اعتقادًا من الحزب بأنَّ الجيش الإسرائيلي منهكٌ في غزة، وإنّه لن يجرؤ على مهاجمة الحزب (وهو ما كان الأمين العام لحزب الله قاله صراحة أكثر من مرّة).
في التحليل الروسي أنّه كان على حزب الله أن يأخذ كل الاحتياطات لمنع اغتيال قادته، خصوصًا حين جاءت رسالة اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس بطائرة مسيّرة في الضاحية الجنوبية لبيروت لتوضح أن إسرائيل غيّرت معادلة الردع مع الحزب وانتقلت الى مرحلة أكثر خطورة وأوسع مجالاً.
لكن رُبما فائض الثقة بالنفس عند الحزب أدى الى هذا التراخي.
لنعُد إلى رواية المسؤول الروسي الكبير
يقول إنَّ نتنياهو مُقتنع بأن كل مبادرات السلام سقطت وما عاد ثمّة ضرورة لها، وحين قُلنا له وللمسؤولين الإسرائيليّين الذين نلتقي معهم هُنا في موسكو أو في إسرائيل، إنّ كلَّ الحروب السابقة لم تؤد إلى شيء سوى المزيد من الدمار والخراب، وإنّ العرب تبّنوا في قمة بيروت العربية في العام 2002 مبادرة الأمير عبدالله للسلام مقابل الأرض، كان جواب نتنياهو: «نحن لم نحصل سوى على الإرهاب مقابل السلام، فحين خرجنا من لُبنان في العام 2000 انتظرنا أن تتولّى الدولة اللُبنانيّة زَمام الأمور، وتنشر الجيش وتطبّق القرارات الدوليّة وتتجه إلى السلام، لكن البديل كان المنظمّة الإرهابية الممثلّة بحزب الله، وحين قرّر آرييل شارون الانسحاب من غزّة في العام 2005 حلّ مكان الجيش الإسرائيلي حماس الإرهابيّة».
قال الروس لنتنياهو: لا تستطيع الاستمرار ببناء المستوطنات واحتلال الأراضي، فكان جوابُه الغريب: «نحن لا نحتلّ أيّ أرض، ففي الضفة الغربيّة ليس لدينا أيّ احتلال وإنما قواتٌ تُنسّق مع السُلطة الفلسطينيّة، وحين تخلينا عن غزة بقي التواصل مع حماس مُستمرًّا، ولم نكن محتلّين».
ماذا يريد نتنياهو الآن؟
هو أبلغ روسيا بصراحة أدهشت سامعيه: «نحن نُريد استسلام حماس، وخروج مقاتليها من غزّة وفلسطين، ونريد القضاء على حزب الله».
سأله الروس إلى إين يُريد ترحيل رجال حماس؟
فقال: إلى أي مكان في دول الجوار. هو يريد الاستمرار في حربه الالغائية الاستئصاليّة ضد حزب الله حتّى النهاية، وإلى ما بعد نهر الليطاني، لأنه يعتبر أن الفُرصة مواتيه بعد أن قتل جيشه قادة الحزب وحماس وخلخل بنى الحزب العسكريّة والتنظيمية وقدراته الصاروخيّة، وفي ظل إدراكه أنّ إيران لن تجرؤ على الانزلاق إلى حرب واسعة.
قال له الروس: «لكنّ إسرائيل اجتازت في العام 1982 كلَّ الحدود وقطعت الليطاني والأولي ووصلت إلى قلب بيروت وأقامت دويلةً عميلة لها بقيادة أنطوان لحد للفصل بين إسرائيل ولُبنان، وجاءت ببشير الجميّل رئيسًا للُبنان، لكن ماذا كانت النتيجة، عادت الحرب وصار حزب الله أشد قوّة، وهو ما تكرّر بعد العام 2006».
ثم قال الروس لنتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين: لا يوجد أي حلّ الاّ بعد إقامة الدولة الفلسطينيّة لأنها جوهر المشكلة وأم القضايا، وسألوه: «هل تُريد حل الدولتين أم دولة واحدة تضم الإسرائيليين والفلسطينيّين والتي تحدث عنها كثيرون بمن فيهم العقيد معمّر القذافي الذي كان قد أطلق شعار إسراطين (أي إسرائيل وفلسطين)؟»، فكان جواب المسؤول الإسرائيلي: «نريد الاستمرار بالأمر الواقع وما عاد لدي ما أقدّمه، وهذا الأمر الواقع جيد».
هذا يعني وفق التحليل الروسي، أن نتنياهو لا يُمانع في حرب استنزافٍ طويلة، يستمر عبرَها بتنفيذ مخططه العسكريّ الواسع مهما بلغت التكاليف ضد كل من يقاوم مشروعه في فلسطين أو لُبنان أو أي مكان آخر. وهذا يعني أن الحرب في غزة ولُبنان طويلة وتزداد خطورة واتساعًا.
لكن حين سألنا المسؤول الروسيّ: «وماذا لو أن حزب الله نجح في إيقاع خسائر كبيرة في جيش الاحتلال جنوبًا وأجبره على تغيير المعادلات؟»،
سارع إلى الإجابة: «نعم هذا ممكن، ورُبما هو الاحتمال الوحيد الذي قد يُغيّر المعادلة».
وماذا عن نجاح مبادرات وقف إطلاق النار والصفقات السياسيّة التي يُمكن ان تنجح في مصر أو قطر او عبر فرنسا والولايات المتحدة الأميركية؟
يبتسم المسؤول الروسي، ويستقيم على الكنبة الوثيرة في مكتبه كمن يستعدّ للإفصاح عن سرّ كبير، ويقول: «لا توجد للأسف أي مبادرة في الوقت الراهن، ولا نرى أي مبادرة في الأفق قادرة على وقف آلة الحرب الحاليّة والتي قد تنتقل الى مراحل أكثر صعوبة، صحيح أن أصدقاءنا في مصر وقطر والسعودية والإمارات وغيرها جميعهم يحاولون وقف الحرب لكن نتنياهو ماضٍ بها».
روسيا لحماس: لسنا حلفاء
حين زار مسؤول كبير من حماس قبل فترة موسكو، بدأ حديثه مع المسؤولين الروس بشكرهم على مواقفهم الداعمة لحماس، فسارع أحد كبار المسؤولين الروس إلى القول: «نحن لسنا مع حماس، وبيننا خلافاتٌ أيديولوجية كبيرة، وموقفنا في سوريا الداعم للدولة اختلف عن موقفكم الداعم للمقاتلين، وكذلك لسنا حلفاء إيديولوجيًّا لحركة الإخوان المسلمين وموسكو حاربت التطرف الإسلامي والإرهاب، ونحن اختلفنا أيضا معكم حول ما سُمي بالربيع العربي، ونحن نؤيد منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وكذلك بالرئيس الفلسطيني والسلطة، ولذلك فموقفنا واضح وهو ضرورة توحيد الصف الفلسطيني في إطار منظمة التحرير».
كان ثمة عتب روسي على حماس بسبب عدم المسارعة إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من ذوي الأصول والجنسية الروسية. فحماس كانت قد أبلغت الجانب الروسي أنّها تعتبرهم إسرائيليين وجزءا من الجيش الروسي والصهيونية، لكن رأي موسكو كان أنّ هذه المسألة لها تأثير على الرأي العام في روسيا وعلى النظرة إلى حماس.
يُشدد المسؤول الروسي الكبير على ضرورة العمل على توحيد الصف الفلسطيني، لا بل والصف العربي في هذه اللحظة الحرجة والعودة الى مبدأ الأرض مقابل السلام ومبادرة السلام العربية التي طُرحت في بيروت.
ومن هذا المنظار، وأيَضًا من مبدأ تمسّك موسكو بضرورة قيام دولة فلسطينية بحدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تستقبل روسيا ممثلي كلّ الفصائل وتناقش معهم سُبُلَ توحيد مواقفهم.
وفي هذا السياق لا يُخفي المسؤول الروسي العمل الدؤوب مع فريق الرئيس محمود عبّاس والتيارات الأخرى لإعادة توحيد حركة فتح، ويتحدث عن صداقات تربط مسؤولين روس بكل الحركة بمن فيهم المنشقون أو الذين أبعدوا والذين يجب أن يكون لهم دورٌ أكبر في المرحلة المُقبلة.
ماذا عن سوريا؟
حين نسأل المسؤول الروسي الكبير عن خطر انزلاق جبهة الجنوب السوري للحرب مع إسرائيل، فهو لا يستبعد أي شيء، لا بل ولا يقدّم أي احتمال لتدخل موسكو لمنع ذلك. فهذا الاحتمال يبقى قائمًا طالما أنّ نتنياهو قرّر المضي بالحرب حتى النهاية، ولذلك من الضروري الحذر الشديد. ويطرح أسئلة عديدة عن الداخل السوري وعمّا يحصل في السويداء وعن دور إسرائيل، وكأنه يُشير بذلك الى مشاكل كبيرة في سوريا بحاجة الى حل وأن لا مجال لفتح جبهة سورية من قبل المحور.
ونسأل: هل حان وقتُ انسحاب إيران وحزب الله من الأراضي السورية بغية سحب هذه الذريعة؟
يُقدم المسؤول الروسي مُبرّرات عديدة بشأن بقاء إيران هُناك، ومختصرها أن إيران دخلت الى سوريا تماما كروسيا بطلب رسمي سوري، ثم كيف تنسحب الآن وما زالت أميركا وتركيّا تحتلاّن جزءا من الأراضي السورية؟.
والغريب واللافت في العلاقة مع حماس، أن أحد كبار مسؤولي الحركة الذي زار موسكو مؤخّرًا جاء يطلب من الروس أن يدعموا توطيد العلاقة بين سوريا وإيران وليس بين العرب وسوريا، وبضرورة تصدّي موسكو للهجمات الإسرائيلية التي تتعرض لها إيران على الأراضي السورية.
ونسأل المسؤول الروسي: «هل صحيح أن موسكو قالت لواشنطن حين كنتم في أوج التفاوض حول سوريا في بدايات الحرب، إنَّ بقاء الأسد في السُلطة يحمي تفكك الدولة ويسمح بالعودة الى المفاوضات بين دمشق وتل أبيب؟» يُجيب بالإيجاب لا بل وبتأكيد أهمية ذلك.
نصرالله والأسد
وهُنا تبرزُ رواية روسيّة مهمّة، تكشف عن ذاك اللقاء الشهير الذي جمع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ونائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف في مقر نصرالله قُبيل الانخراط العسكري للحزب وإيران في سوريا.
*آنذاك شرح نصرالله للضيف الروسي أنّ الرئيس السوري بشّار الأسد اتصل به وقال له إنَّ الفصائل العسكريّة المتطرّفة التابعة للمعارضة صارت على جبل قاسيون وثمة تهديد بالنزول الى المقرّ الرئاسي، وهذا يعني الوصول الى دمشق ثم إلى بيروت، وطلب منه المساعدة العسكرية، فاتخذ نصرالله القرار بإرسال بضعة آلاف من المقاتلين إلى سوريا ثم جرت استعادة منطقة القصير وغيرها لاحقًا.
وماذا عن التطبيع التُركي السوري؟
يؤكد المسؤول الروسي أنّ العملَ جارٍ على نحو حثيث في هذا الاتجاه، لكن سورية تشترط انسحابا عسكريًّا تُركيا قبل الدخول في مفاوضات حاسمة وقبل لقاء الرئيسين رجب طيب أردوغان وبشّار الأسد، وأمّا أنقرة فتقول إنّها لو انسحبت فإن الكُرد سيقيمون دولتَهم، وإن الجيش السوري لن يكون قادرًا على محاربةِ داعش والقوات المتطرّفة الأخرى، وإنّ على دمشق أن توضح موقفَها من المعارضين الذين سيعودون ومن مسألة النازحين وغيرها من النقاط الواجب حلّها. لكن موسكو مستمرة بالعمل على هذه المسألة.
جنبلاط وسوريا وقائد الجيش
لوليد جُنبلاط وحزبه ووالده الشهيد كمال جنبلاط مكانة كبيرة وواضحة عن الروس.
وهم يتحدثون عن علاقة «صداقة قديمة مع وليد جنبلاط»، ويكشف أحد المسؤولين الروس أنّ موسكو نصحت جنبلاط بتخفيف الاتهامات المذهبية والطائفية ضد بشّار الأسد، وقال له مسؤول روسي: «أنت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، والبعث هو حزب اشتراكي، إذًا أنتم رفاق في الاشتراكية ويجب عدم أخذ الخلاف الى أماكن لا عودة عنها»، ولكن الروس يدركون أن جنبلاط الذي غالِبًا ما يتذكّر اغتيال والده ويتصرّف على أساسه في العلاقة مع سوريا، يُدرك واقع وأفق التطورات الحاصلة اليوم، ولذلك فهو يعود إلى حيث يجب أن يكون.
وأما الانتخابات الرئاسية اللُبنانية فنسمع من دبلوماسي عربي عريق أن الموقف الروسي الرسمي كان لدعم سليمان فرنجيّة للرئاسة دون الإفصاح عن ذلك وخلافًا لما فعلته فرنسا أو غيرها، وأنّ رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، حين سُئل عن رأيه بقائد الجيش جوزف عون كمُرشّح رئاسي، امتدح خصاله على المستوى الاستراتيجي، وقال صحيح أن مُرشّحنا هو سليمان فرنجية لكن ليس لدينا أي تحفظ على جوزف عون.
ترمب أم هاريس؟
ليس جديدًا أن يُدرك زائر موسكو رغبة السُلُطات الروسية بوصول دونالد ترمب الى الرئاسة، وهم يأملون بالتوصل معه الى تسوية حيال إنهاء حرب أوكرانيا، لكن هل لو وصل وقامت تلك التسوية، سوف تنسحب إيجابًا على الشرق الأوسط وإيران. ليس مؤكَّدا، وقد يسمع زائر موسكو أنّ إيران قد تتخلى عن بعض حلفائها مقابل انقاذ دورها في المنطقة لو جاء ترمب.
خلاصة القول:
هي أن روسيا متشائمة جدًا حيال التوصل الى أي حل قريب في غزة أو لُبنان، وتشعر بقلق كبير حيال احتمال توسع الحرب، ولا ترى أي مبادرة دولية لضبطها قبل انقشاع صورة الانتخابات الأميركية وربما بعد ذلك بشهور أو حتّى سنوات أخرى.
المصدر: منتدى التكامل الإقليمي