السؤال الذي يؤرقنا منذ عقود، أي طريق نسلكه لإصلاح المجتمعات العربية الغارقة في موروثات ثقافية مقرونة بسلوكات اجتماعية أضحت عادات شبه عادية وسليمة في تناولنا لقضايا عديدة تهم مجتمعنا المعاصر.
فنحن بحاجة اليوم إلى إصلاح ديني وتنوير حداثي، يساعد في إعادة كتابة الحاضر العربي الميؤوس منه، على أمل صنع مسببات قوية لتحقيق الغد المنشود. الإصلاح الديني بحاجة لرجال دين وعلماء مستنيرين على اطلاع تام بالتطورات الفكرية والعلمية المعاصرة وملمين بالدين بشكل كلي وصحيح، التنوير الفلسفي بحاجة لمثقفين غيورين وحاملين لمشروع نهضوي وفكر تنويري.
الإصلاح حسب الاختصاص لا يعني بالضرورة إقامة جدار عازل بين التيارين، بل بالعكس يجب أن يتكاملا في إطار مشروع بنيوي مجتمعي هدفه التجديد الشامل للمجتمع المعاصر الذي ضاع بين التقليد الأعمى والتأصيل الأعرج، مما ولد مجتمعات ناقصة ومشوهة ثقافيا وهوياتيا، وتائهة بين الأمس واليوم.
الهدف اليوم، التحرر من الجمود الفكري والانغلاقات التراثية التي سيجت الفكر المعاصر وجعلته أسيرا لمفاهيم متناقضة ومتباينة بين فتاوي ومواقف شيوخ تتبدل بين التاريخ والجغرافيا كما تتغير الفصول. إخفاقات جماعية أصبحت في الكثير من الأحيان يقينيات وصلت درجة كبيرة من التدجين والجهل الممنهج الذي يعيشه مواطن اليوم.
فالكثير من رجال الدين وجماعات الإسلام السياسي، اليوم، تتاجر بالدين، تتاجر من أجل بقاءها وديمومتها في مجتمع يمكن السيطرة عليه حين يتم تعليب كل قضية بغلاف ديني، واللعب بالمشاعر الدينية للمواطنين. والكثير من المؤسسات الدينية اليوم، فسدت بشكل كبير، ولم تعد تواكب التطور الحاصل وتتناقض أيضا مع بعض القوانين التي تعتمدها المؤسسات الدستورية والسياسية.
الحركة الإصلاحية المنشودة اليوم هدفها تنوير العقول والتخلص من الرواسب التراثية البالية والابتعاد عن التعصب الطائفي وتغليب المذهب الإنساني المتسامح، وإعطاء فرص جديدة لقراءة وفهم الدين والأحاديث بالشكل الصحيح وليس كما يذهب إليه الكثير من المتعصبين والذين يرفضون النبش في الماضي أو الغوص في فهمه أو تفسيره.
التيار الثاني الذي من المفروض أن يقوده فلاسفة ومثقفون عقلانيون لتحقيق قفزة نوعية نحو تحرير كبير للعقل العربي الذي سيساهم بدوره في إعطاء مفهوم مستنير للدين. كلاهما يهدفان إلى إعلاء شأن العقل الذي وهبه الله لبني البشر، ومحاولة التكييف أو القطع مع الكثير من الموروثات التي لا تساهم في تطورنا وتعيق فهمنا الصحيح للحياة.
في مرحلة ما من تاريخ العصر الذهبي الذي عاشه العرب، لم يتصادم الطرفان أبدا، بل ساهم السجال العميق بين الفلسفة والدين في رقي المجتمع وبروز علماء أجلاء ساهموا في بناء الحضارة الإنسانية دون أن ينفي أحدهما الآخر. لكن منذ القرن الثاني عشر، تم إجهاض السجال الجاد وإغلاق باب الاجتهاد وانغلق الفكر وتم تجميده لأجل غير مسمى.
وبدأ الفكر مرحلة جديدة من الانكماش انتهى باندحار الأمة وغابت الفلسفة وغيبت قصرا دون أن تستفز الواقع وتجادله وتدفعه نحو التطور والنمو، وهيمنت المؤسسات الدينية والسياسية واضطهد المفكرون الأحرار فانحسر العقل الجدلي وساد الجهل وانتشرت التفاهة.
فلماذا نجحت كل التجارب التنويرية في العديد من الدول، في حين فشلت تجربتنا العربية؟