بقلم: عبد السلام البوسرغيني/
سأبدأ بما أنهيت به هذا الحديث لأؤكد بادئ ذي بدء حكم التاريخ على الحركات الانفصالية بالانهيار، لأنها تفرق البشرعوض أن تجمعهم، ولأنها تحاول أن تهدم ما بناه الإنسان، أو يعتزم بناءه من مجتمعات متماسكة، تتيح للناس التعايش والتعاون وتبادل المنافع. وأمامنا الآن أمثلة مما سجله التاريخ الحديث عن انهيار للحركات الانفصالية، سواء في إسبانيا وبريطانيا وإيرلندا الشمالية وفرنسا بالقارة الأروبية، أو في نيجيريا والكونغو والسينغال بالقارة الإفريقية، وفي العراق بالشرق العربي، وأخيرا في المغرب، حيث لم يستطع قادة الجزائر بعد قرابة خمسة عقود، من الجهود وتعبئة قدرات البلاد وتبذير الأموال، أن يجدوا لـ”جمهوريتهم الصحراوية” المنبثقة عن البوليساريو مجالا يؤكد وجودها الفعلي على أرض الواقع، وإن كانوا قد ضمنوا لها مكانا في الاتحاد الإفريقي، وفيه فقط مع احتمال أن تفقد هذه العضوية قريبا.
وبعد، يمكن اعتبار البحث الذي نشره موقع قناة “الحرة” يوم السبت رابع يونيو2022 وثيقة تاريخية، لما اشتمل عليه من حقائق نشرت على نطاق واسع في العالم العربي، ونظرا لمحاولته الإلمام بمختلف الجوانب المرتبطة بصيرورة منظمة البوليساريو، أي الأصل والنشأة والتطور، وحتى وإن كان كاتب المقال الزميل عبد الرحيم التوراني قد أسهب في حديثه، فإنه لم يكن من الممكن أن يسرد كل الأحداث المتصلة بالبوليساريو، أو بالأشخاص الذين كان لهم دور وتأثير على التطور الدراماتيكي الذي آلت إليه قضيةالصحراء، وقد عمرت طويلا، ولا يراد لها أن تنتهي إلى حل وتسوية، تبعد مخاطر نشوب حرب مسلحة مباشرة بين الطرفين الأساسيين المعنيين بهذه القضية، ونعني بهما: المغرب والجزائر.
في اعتقادي أنه لا يمكن لأي أحد أن ينكر أن البوليساريو نشأت كحركة تحريرية اشتراكية المذهب وجمهورية التوجه، مع نقص في الوعي السياسي، في وقت هيمنت فيه الحركات الثورية على الساحة العربية من المشرق إلى المغرب. كما لايمكن الجدال في كونها تأسست على يد صحراويين متحمسين ومندفعين، ولكنهم لا ينتمون كلهم إلى الصحراء الغربية التي حققت اندماجها في المغرب بإرادة الأغلبية الساحقة لسكانها. فكثيرون من قادتها ينتمون في الأصل إما إلى المغرب إو موريتانيا أو الجزائر. أما المخيمات التي أقيمت على الأرض الجزائرية في منطقة تندوف، فهي تضم صحراويين منحدرين من مختلف الأقطار المغاربية وأقطار ما يسمى بالساحل الصحراوي ، وينتمي أغلبهم إلى مالي والنيجر.
وفي اعتقادي كذلك، وبحكم كوني عشت وعايشت قضية الصحراء كصحفي منذ نشوئها، يمكن لي القول بأن البوليساريو نشأت كحركة ثورية، ولم تكن حركة انفصالية لو لم تجد مساندة من العقيد الليبي معمر القذافي، الذي كان يبحث عن توسيع نفوذه في عموم الصحراء، من التشاد التي شن عليها حربا لضم جزء منها إلى التراب الليبي، وإلى الامتداد الصحراوي نحو الجنوب، ولو لم يجد قادتها في شخص الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين من يحولهم من وحدويين ثوريين مغاربة، إلى انفصاليين، ليجعل منهم حركة مسلحة، يوفر لأفرادها المأوى والتمويل والتسليح، ويتعهد ويمول نشاطهم في الخارج، قصد استخدامهم كأداة لبسط هيمنته على المنطقة المغاربية.
وأعتقد أنه كان من الصعب على الملاحظين الأجانب أن يدركوا كيف أمكن للعقيدين القذافي وبومدين أن يكون لهما سلوك موحد، ولا أقول سياسة موحدة إزاء قضية الصحراء، وكيف لم يظهر ما يوحي بوجود تنافس بينهما لكسب قادة البوليساريو إلى جانب كل واحد منهما، وإن كانت هيمنة بومدين قد بدت واضحة بحكم القرب والاحتضان. لكن بالرجوع إلى الأجواء السياسية السائدة في المنطقة المغاربية خلال العقد السابع من القرن الماضي، ندرك أن الذي كان يجمع بينهما هو العداء المستحكم للنظام الملكي في المغرب، وهوعداء كان القذافي يجهر به، في حين لم يبرز للوجود لدى بومدين إلا بعد أن ظهرت بوادر نجاح المغاربة في تحقيق تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني، تمهيدا لضمها إلى المغرب وموريتانيا بمقتضى اتفاقية مدريد، المبرمة بين الأطراف الثلاثة يوم 14 نوفمبر 1975.
والواقع أنه حتى قبل بروز نزاع الصحراء إلى العلن، كان الصراع بين مغرب الحسن الثاني وجزائر هواري بومدين صراعا صامتا، يجتهد كل طرف في إخفائه، وإن كانت الدوائر العليا في المغرب على الخصوص، لا تفتأ تترقب انفجاره، لما كانت تتوفر عليه من معطيات، وبالفعل حدث ذلك، وبكل العنف الذي بدا واضحا على خطب بومدين في ذلك الحين. على أن الملك الحسن الثاني ظل يحاول بالرغم من ذلك تفادي الاصطدام، عن طريق السعي لإيجاد سبل للتعاون، أسفرت في النهاية عن إبرام ذلك الاتفاق التاريخي الذي أعلن عنه في القمة الإفريقية لمنظمةالوحدة الإفريقية المنعقدة بالرباط في يونيو (حزيران) 1972، بيد أن تطبيقه ظل معلقا إلى أن أصبح في حكم الماضي، وإن كانت قد جرت محاولة لإحيائه سنة 1988 على يد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد والملك الحسن الثاني، لكن لم يتحقق ما كان متوقعا من تلك الخطوة، نظرا لهيمنة كثير ممن تبنوا السياسة التي إتبعها بومدين.
بحلول العقد السابع من القرن الماضي الذي سجل في سنته الأولى أول لقاء قمة ثلاثي مغربي جزائري موريتاني، كان الملك الحسن الثاني على علم بما كان يدبر في الخفاء للصحراء الخاضعة للاستعمار الإسباني، إذ كان الجزائريون يتعاونون مع الإسبان، وذلك من أجل خلق كيان صحراوي قابل كي يتحول إلى دولة حليفة لإسبانيا وللجزائر معا، وكان التمهيد لذلك قد بدأ بتأسيس ما سمي بالجماعة الصحراوية، على شكل مجلس تشريعي، تسند رئاستها لشخصية قبلية بارزة، يمكن أن تحظى بتأييد شيوخ القبائل الصحراوية، وقد وقع الاختيارعلى السيد خطري ولد سعيد الجماني، الذي لم يتردد في الالتحاق بالمغرب وتقديم البيعة إلى جلالة الملك الحسن الثاني عندما حز الأمر، اقتداء بالأجداد الصحراويين من الشيوخ الذين كانوا مرتبطين بوطنهم المغرب قبل الهجمة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، كما ثبت ذلك لمحكمة العدل الدولية وأعلنت عنه في رأيها الأستشاري في أكتوبر ١٩٧٥، معترفة بوجود ارتباطات سيادة بين المغرب وقبائل الصحراء، وإن كانت قد أوصت بتطبيق تقرير المصير. وبالعودة إلى التذكير بحادث التوصل إلى اتفاقية الرباط، تكون قد مرت خمسون سنة، كان من الممكن أن تحقق الجزائر بالتعاون مع المغرب ما يشبه المعجزة، وذلك لأن ما نصت عليه تلك الاتفاقية كان سيؤدي إلى إختفاء مشكل الحدود بصفة نهائية، وإلى تحول منطقة تندوف، مع ما يتاخمها من المناطق المغربية، إلى واحة للازدهار الأقتصادي والاجتماعي، عن طريق الاستغلال المشترك لمعادن مناجم غار جبيلات الغنية.
والآن، هل يمكن القول بأن الآمال التي كانت معلقة على تطبيق اتفاقية الرباط قد خابت، ولم يعد من الممكن أن يكرر التاريخ نفسه من جديد؟
سيظل الجواب معلقا في انتظار ما يمكن أن تحققه الأجيال المقبلة في كل من الجزائر والمغرب من تفاهم، من أجل بناء مستقبل المنطقة المغاربية. وإننا إذا ما عدنا إلى أحداث تلك الفترة يمكن أن ندرك أن ما كان يدورفي خلد وفكر بومدين ويعبر عنه، هو أن يكون بناء الجزائرعلى حساب جيرانها لا بالتعاون معهم. ولقد ترك هذا التوجه إرثا لمن جاؤوا بعده، وتبين أن التشبث به لا يمكن أن يمهد الطريق لتحقيق آمال المغاربيين، لا خلال الجيل الحالي، ولا حتى الجيل الذي سيعقبه، اللهم إلا إذا حدث ما يشبه المعجزة.
لقد جاءت مساهمة الجزائر في مداولة محكمة العدل الدولية في غضون سنة 1975 لإصدار رأيها الاستشاري، والبث في الدعوى التي رفعها المغرب لإثبات انتساب الصحراء الغربية إلى السيادة المغربية، لتكشف عن تضارب في الآراء بين المغرب الجزائر حول ما يجب أن يكون عليه مستقبل العلاقات بين البلدين، وبالتالي مستقبل المغرب العربي، حتى وإن كان الرئيس هواري بومدين قد حاول طمأنة الملك الحسن الثاني، الذي تلقى منه رسالة في منتصف سنة 1975 حملها إليه وزيرالخارجية عبد العزيز بوتفليقة، ثم بدا واضحا فيما بعد أن محاولة الاطمئنان هذه كانت بهدف التمويه لإخفاء الموقف الحقيقي للجزائر، إذ ما أن أعلن الملك الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء يوم 16 أكتوبر 1975 حتى كشف الرئيس هواري بومدين عن نواياه الحقيقية، وبوسائل متنوعة ذهبت إلى حد تهديد الرئيس الموريتاني المرحوم المختار ولد دادة، إذا لم يتخل عن تحالفه مع الحسن الثاني ويعلن انسحابه من الاتفاق المبرم مع إسبانيا في14 نوفمبر 1975 بمدريد. ويحكي الصحفي والناشر الفرنسي جان دانييل، الذي كان برفقة الرئيس الجزائري أنه اندهش من ردود الفعل العنيفة والمتشنجة الصادرة عن بومدين، لدى سماعه خطاب الملك الحسن الثاني الذي أعلن فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء للزحف على الصحراء، بمساهمة ٣٥٠ ألف مواطن ومواطنة بهدف تحريرها من الإستعمارالإسباني.
وهكذا يمكن اعتبار ذلك الخطاب بمثابة الشرارة التي أشعلت النار، لتحرق ما كان يربط الحسن الثاني بالرئيس بومدين من علاقات، اتسمت أحيانا بالود وأحيانا أخرى بالتوجس، ومن تم دخلت العلاقات المغربية الجزائرية في نفق مظلم، لم يستطع الانفراج الظرفي، الذي حدث في آخر الثمانينات، بعث الروح في تلك العلاقات، إذ سرعان ما تدهورت ليسفر ذلك عن إغلاق الحدود في غشت 1994 وإلى الآن، بل لقد حدث تصعيد في التوتر، وذهبت الجزائر في غشت 2021 إلى حد الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية، ثم عن رفض أية وساطة لرأب الصدع، وهو أمر لا تصل إليه، وفي كثير من الأحوال، حتى الدول التي تدخل في حرب بينها.
ونظرا لكل ما سبقت الإشارة إليه، فلا يمكن إذن الحديث عن قضية الصحراء دون الحديث عن التحالف بين الرئيس هواري بومدين وقادة جبهة البوليساريو، لتكون هذه أداة لتحقيق ما يسعى إليه، أي أن تكون الجزائر مهيمنة على المنطقة المغاربية، وهو الهدف الذي لا يخفيه القادة الحاليون، عندما يصرحون بأن الجزائرقوة ضاربة، وعندما لا يترددون في التصريح باعتبار المغرب عدوا كلاسيكيا، ويخاطبون المسؤولين المغاربة بعنجهية، ويطالبونهم بالاعتذار عن تجاوزات يتهمونهم بارتكابها. وحتى إذا ما صدقنا ما يقوله القادة الجزائريون، فإنه لا يمكن أن ترقى إلى درجة العداء القصوى التي يبديها هؤلاء القادة.
إن حرص أجهزة الإعلام الجزائرية، وبتوجيه من المخابرات الجزائرية، كما يبدو ذلك واضحا وضمن مخطط مرصود، على إعادة بث وإذاعة خطب الرئيس هواري بومدين النارية التي ألقاها بعد انفجار نزاع الصحراء، يرمي في نظري أساسا إلى تحقيق شيئين اثنين:
أولهما، إضعاف المغرب، لا فقط بصفته خصما بل للعتباره عدوا.
وثانيهما، تحقيق العظمة للجزائر كدولة محورية في إفريقيا.
فبالنسبة للهدف الأول، يمكن القول بأن الجزائريين فشلوا في تحقيقه. فما أنجزه المغرب خلال العقود الأربعة الماضية بخصوص قضية الصحراء، التي تعد حجرالزاوية في الصراع المغربي الجزائري، يؤكد حدوث عكس ما سعى إليه الجزائريون. فمن حيث عملوا على تمكين البوليساريو من السيطرة، ولو على جزء يسير من الصحراء الغربية، ليؤمنوا لأنفسهم موطئ قدم فيها، أصبح المغرب مسيطرا على مجموع ترابها بعد أن تخلى قادة موريتانيا عن الجزء الذي كانت أتفاقية مدريد المبرمة في نوفمبر 1975 قد منحتها لها. وقد حصل ذلك ضمن صفقة أبرمت في الجزائر العاصمة يوم 5 غشت 1979، وبعد خمسة أيام أصبح إقليم الداخلة وادي الذهب تحت السيطرة وخاضعا للسيادة المغربية، بحكم البيعة التي أعلن عنها شيوخ قبائل الإقليم ووجهائه يوم 11 غشت 1979 في مدينة الداخلة، ثم رحلوا إلى الرباط وقدموها لجلالة الملك الحسن الثاني يوم 14 من نفس الشهر. ثم جاء حصار البوليساريو لمعبر الكركرات في نوفمبر 2020 ليتحول إلى فوز جديد للمغرب، حيث أتاح له فك الحصارعن المركز الحدودي، وهو الحصار الذي أزعج المجتمع الدولي، ثم أقدم على تمديد الجدار الدفاعي وإلغاء صفة المنطقة العازلة على منطقة الكركرات الممتدة إلى شاطئ المحيط الأطلسي، حيث تم تشييد ميناء لوجيستيكي، بل أن هذه التطورات فتحت لمنطقة الكركرات فرصة التحول إلى تجمع سكاني، تمهيدا لإنشاء مدينة بدأت تظهر معالمها إلى الوجود. ومن حيث سعي الجزائريون لإضعاف المغرب إقتصاديا، تمكن من النهوض صناعيا وفلاحيا، ونجح في خلق كثير من مصادر الثروة، مكنته من توفير تمويل مشاريع عمرانية ستحول الأقاليم الجنوبية الأطلسية إلى قطب اقتصادي مهم، ينافس ما هو موجود شمال المملكة ووسطها، ويعزز علاقات المغرب بعمقه الإفريقي.
وبالنسبة لطموح الجزائريين من أجل تحقيق العظمة للجزائر، كما تصورها بومدين وعمل من أجلها، فإن السياسة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة لم تجعل من الجزائر الدولة القارة الباسطة عبر هيمنتها في محيطها الإقليمي، كما تصورها العقيد هواري بومدين. ولا يبدوأن الوعود التي يقدمها القادة الحاليون للشعب الجزائري ستجد طريقها للنهوض بالجزائر الدولة العظمى، كما صرح بذلك الرئيس عبد المجيد تبون، معلنا بأن الجزائر “قوة ضاربة”، وبأن الكل يعترفون لها بذلك، ىالواقع أنه لا يكفي أن يتنقل الرئيس الجزائري ليزور بعض الدول، مهما تكن أهميتها الاقتصادية أو الديبلوماسية، لتتوفر للجزائر وسائل تحقيق العظمة للبلاد. كما لا يكفي أن تتحرك الدبلوماسية الجزائرية لتقديم الوعود والإغراءات أحيانا، أو لممارسة الضغط والابتزاز أحيانا أخرى للوصول إلى نفس الهد.
إن من لا يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع السائدة إقليميا ودوليا، ويتعمد القفز على الأحداث التي رافقت تطور قضية الصحراء، ولا يحاول استخلاص العبر منها، لا يمكن له أن يدرك حقيقة النزاع المغربي – الجزائري. وأعتقد أن أخشى ما يخشاه حاليا القادة الجزائريون الذين بيدهم الحكم، هو أن يتسرب اليأس إلى نفوس أفراد النخبة الجزائرية، ومن تم إلى الشعب الجزائري، بأن بلادهم خسرت معركة الصحراء، خصوصا وقد ذهبوا إلى حد ربط قضية الصحراء بالأمن الوطني الجزائري، وإذا ما حدث ذلك فسيخسر النظام القائم هيبته. من هنا ندرك خطورة الوضع بالنسبة للجزائر، لأن الانزعاج السياسي الجزائري لا يرجع فقط إلى سيطرة المغرب الكاملة على الصحراء وتأمينها، بل لأن القادة المغاربة أقنعوا الرأي العام الدولي بالتعامل معهم على أساس “أن المغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس”، وعلى أساس “أن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، وأن قضية الصحراء بالنسبة للمغرب قضية وجود، لا قضية حدود” .
الواقع أن حركة البوليساريو التي يعتمد عليها قادة الجزائرفي تجسيد دبلوماسيتهم وتطبيق سياستهم، فقدت صفتها كحركة تحريرية، وتحولت إلى حركة إنفصالية، كمثيلاتها التي كانت منتشرة في الشرق العربي وفي القارتين الافريقية والأروبية. لقد اندحرت وانهارت مختلف حركات الانفصال، وحتى التي كان وراءها شعب متميز إثنيا ولغويا، كحركة الأكراد الذين حملوا السلاح وكافحوا داخل ترابهم ولسنين طويلة.
وإنه لمن سخرية القدر أن يكون الرئيس هواري بومدين هو الذي تسبب في انهيار حركة الأكراد بالعراق، هو نفسه الذي حول البوليساريو، أوعلى الأقل ساعد هو والعقيد معمرالقذافي على تحويل البوليساريو من حركة تحررية مغربية إلى حركة انفصالية في خدمة خصوم وأعداءالمغرب. فلقد كان هواري بومدين قد نجح في تحقيق الصلح بين الرئيس العراقي صدام حسين وبهلوي شاه اَيران، وبدا الرئيس الجزائري وهو يعانقهما مزهوا بما حققه في مؤتمر قمة الدول المصدرة للبترول المنعقد بالعاصمة الجزائرية في منتصف السبعينات، بنجاحه في تسوية النزاع بين العراق وإيران حول نهر شط العرب المتاخم للبلدين.
إن ما حدث للحركة الانفصالية في العراق، حدث أيضا لحركة الباسك الإسبانية، وهما الحركتان اللتان استعملتا السلاح ولم تتمكنا من تحقيق هدفهما، ونفس المصير آلت إليه محاولة الانفصال في كاطالونيا، التي استعمل قادتها الاسفتاء لمحاولة الانفصال، فعاقبتهم السلطات المركزية الإسبانية وقدمتهم للمحاكمة بمقتضى الدستور. ولن نأتي على ما آلت إليه من انهيارالحركات الانفصالية في بيافرا في نيجيريا، وفي كطانغا بالكونغو كنشاسا، وفي كزمنس بالسنيغال.
وبعد، أفلا يكون ما حصل للحركات الانفصالية التي ذكرنا والتي لم نذكر، عبرة لقادة البوليساريو للتخلص من نزعتهم الإنفصالية؟
ولما لا يتعظ القادة الجزائريون بكل ما حصل بالنسبة للمغرب وللجزائرمعا، من مآسي من جراء إصرارهم على تعبئة حركة الانفصال، التي يصرون على تبنيها رغم استحالة تحقيق أهدافها؟ ولو فكروا مليا لأدركوا أن ما ستربحه الجزائر من تسوية نزاع الصحراء لا يقارن بما خسرته وما ستخسره. وأعتقد أنه ما دام المغرب مستعد للحوار من أجل إنهاء الصراع مع الجزائر، فلماذا لا يحدث تقارب بين المغرب والجزائر؟ ولماذا لا يعمل البلدان ويجتهدان معا من أجل تلمس سبل التسوية؟