تبا لأمة تتغنى يوميا بأمجادها، ونسيت أن عجلة الزمن لا تتوقف، نسيت أن إنجازات اليوم هي تراث الغد، نسيت أن حروب التحرير انتهى زمنها منذ عقود عديدة، ولا زالت العديد من المجتمعات العربية لا تتغنى إلا بشهداء ثورات التحرير وعددهم، وكأنها تهرب من مواجهة الواقع، ودس الرأس في الرمل، والعيش في أحلام الماضي، في وقت تتهافت وتتسابق الدول نحو بناء الحضارة والرقي بمجتمعاتها.
فالهروب إلى الخلف، لا يبني الأوطان، بل يؤخر البحث عن حلول وإيجاد طرق وسبل الخروج من الأزمات المتتالية التي تتخبط فيها المجتمعات العربية داخليا وخارجيا، من انقسامات وحروب ودسائس. ليس هناك مجتمعات تم استغلالها بشكل بشع كما حصل في عالمنا العربي.
فالواقع في الحقيقة، يختلف كثيرًا عن التصورات التي سبق وأن برمجت، والأحلام التي مهدت إليه والرؤى التي نجمت عنه. إن تاريخنا الحديث ليس منفصلًا عن تاريخ باقي المجتمعات حولنا، فهناك دول أخرى وأمم كثيرة واجهت آفات التخلف والقهر مما أدى بها إلى الغياب عدة قرون من صفحة التاريخ وتاهت في المجهول وعاشت ظروف معقدة، لقد عرفت الصين وكوريا الجنوبية واليابان ودول أخرى ظروفا مشابهة، لكنها خرجت منها وصنعت أمجادا.
كيف نصبو لبناء ديمقراطية حقة في مجتمع جاهل من عامته إلى نخبته، كيف تنشد ثقافة واعية ومسؤولة في مجتمع فاسد من كل جوانبه؟
الفساد ليس سببا بل نتيجة، ونتيجة حتمية لتصبح النخبة الحاكمة فاسدة حين يكون الشعب فاسدا، وفساد الشعب هو نتاج لفساد منظومة التربية والتعليم والأسرة، ينخر الفساد أيضا المجال الديني والإعلامي والمؤسسات الإدارية والدستورية، كلها عوامل أدت إلى إنتاج منظومة سياسية فاسدة محنكة.
لا أمل في مجتمع طبيبه تاجرا في البشر وقاضيه دجالا ومثقفه طبالا من اجل مكاسب شخصية، لا أمل في مجتمع يتوجه فيه مسؤول حكومي لوسائل الإعلام ليشتكي من الفساد المتفشي، لا أمل في مجتمع تسوده الفوضى وانعدام الأمن ورجال أمنه لا يكترثون للوضع، لا أمل في مجتمع يستدين الفقير مبالغ مالية ليدفعها رشوة وواسطة ليجد ابنه عملا، ببساطة لا أمل في مجتمع يعيش عالة على مجتمع آخر.
حين يجتمع العمل النقابي أو العمل الوطني والرأسمال والثراء فتأكد أن المجتمع وصل مرحلة من الفساد لا تطاق، واعلم أن العمل السياسي والأحزاب السياسية لم تعد سوى وسائل لتحقيق الغنى وتراكم المال، فكيف حققت النخبة هذه المكاسب إن لم يكن عن طريق الفساد، وبنت لنفسها أبراجا عاجية وسمحت لنفسها بإعادة إنتاج نفس النخبة في الزمان والمكان وتوريث كل المكسبات لأجيالها القادمة سياسيا واجتماعيا وسلطويا، في حين تم تهميش أبناء الشرفاء والمناضلين والعامة وباقي أبناء المجتمع الذي يعيش على هامش هذه الوضع.
هناك عمل جبار لكثير من شرفاء الأمة، حتى لا نبخس عملهم، لكنه غير كاف ليحقق المبتغى، نحن بحاجة إلى جهد كبير لمواجهة التحديات الكبيرة، حتى نقضي على اليأس الذي استوطننا، ووقف جلد الذات والتحرك نحو أفق إيجابية لدفع المجتمع نحو أهداف واضحة وحقيقية حتى نعيش الواقع ونغيره بعيدا عن الأحلام.