فى البداية نطرح سؤالا قد يكون مهما وسأعتبره مدخلا لهذا الموضوع. هل ثم فرق بين العقل القديم والعقل الحديث ، والعقل المعاصر أم أن العقول واحدة لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. أم أن الذي يختلف هو كيفية توظيف هذه العقول في التعامل مع مستحدثات الأمور ، وما يستجد من قضايا.؟!
لا أقصد بالعقل القديم القدم الزماني والمكان Ancient، أو الحديث Modern ، أو المعاصر contemporary
وإنما الذي أقصده هو كيفية تعامل هذه العقول وتفاعلها مع القضايا والمشكلات التي طرحت في عصورها المختلفة ، فلكل عصر مشكلاته الملحة التي تحتاج إلى تآلف كل العقول من أجل إيجاد حلول لها أقول حلولا وليس أنصاف حلول.
فعلى سبيل المثال كان في العصور القديمة وخصوصا حضارة الشرق القديم ، كانت توجد مشكلات قيمية ، فظهر كونفشيوس حكيم الصين وحاول إعمال عقله في هذه القضايا وقدم حلولا لها تتوافق مع مجتمعه الذي وجد فيه فاتي بفكرة الوسط الأخلاقي وجدنا ذلك فى كتابه الأسفار الأربعة سفر الإعتدال فتهذبت الأخلاق وارتقى مجتمعه آنذاك ، بل وظلت حكمه ومواعظه تدرس إلى الآن في الصين ، ليس هذا وحسب بل وفي كل البلدان ، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن العقول لا تحد بحدود ولا نقيسها بأزمنة.
وهكذا بالنسبة لأنصار مذهب المادية قديما وحديثا ومعاصرة ، المادة هي هي ، لكن التعبير عنها وعن استخداماتها هو الذي اختلف ، فالعقل المادي منذ الطبيعيون الأوائل إلي توماس هوبز وجون ستيوارت مل ، وجيرمي بنثام هو هو لكن الاختلاف هنا في توظيف هذا العقل لخدمة كل عصر ومستحدثاته.
فالمادة هي هي ، والعناصر الأربعة التي يتكون منها كل موجود هي هي ، الماء، النار، الهواء ، التراب.
حتى فكرة الذرة التي تكون منها هذا الكون والتي حدثنا عنها ديمقريطس وأنها لا تتجزأ وظل هذا الإعتقاد سائدا إلى وقت قريب ، فجاء العقل الحديث والمعاصر وأثبت انشطارها وتفتتها بفضل جهود هذه العقول.
حتى عندما أقحم العقل ذاته في العصر اليوناني واقتحم عالم ما فوق فلك القمر وحاول أن ينزله عقلا إلى الأرض ، بمعني أنه حاول التعامل معه كعالم فيزيقي يخضع للدرس والتحليل والتجريب واجهته صعوبات كثيرة ، أهمها أنه يتعامل مع عالم مفارق ليس مادة ملموسة محسوسة ، هذه واحدة ، أما الثانية فتعرض هذه العقول للاضطهاد من السلطة الدينية التي كانت تخلع على العالم الميتافيزيقي هالة من القداسة فحدث ما حدث لسقراط ، وسفهت آراء أفلاطون وضربت بآرائه في جمهوريته عرض الحائط وأنه لا سبيل إلى تحقيق هذه اليوتوبيا الحالمة ، فظل ينظر وينظر دونما إنتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق وظل في عالم افتراضي هداه إليه عقله الفردي واعتزل القوم.
إلا أن أرسطو وجه جل فكره إلى الهبوط بعقله من أعلى إلى أسفل من عالم الميتافيزيقا إلى العالم الطبيعي ، لعله يستطيع أن يقدم حلولا جذرية إلى قضايا واقعه المعيش ، وهنا يكمن الدور الحقيقي للفلسفة وللمفكر ، الإهتمام بالواقع الذي يحياه.
أما أفلوطين فحاول أن يعيش في الواقع لكنه اصطدم بمادياته التى فرضت نفسها ، ومن ثم راح بعيدا سابحا بعقله في التصوف والزهد وألف كتابه الأثولوجيا أو معاتبة النفس الذي نسب خطأ لأرسطو.
وهكذا كان حال العقل في العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية واليهودية.
تعرض أوغسطين وانسلم وبطرس أبيلارد وتوما الإكويني إلى الاضطهاد لأنهم عبروا عن آراءهم عقليا ، وظن رجال المجمع الكنسي أنهم شذوا وشطحوا ، ونكل بهم بل ومنهم من أتهم بالهرتقة ، ومنهم من نفي خارج البلاد ، ومنهم من طرد من الخدمة في الكنيسة ، لكنهم على الرغم من كل ذلك أسهموا إسهاما كبيرا في تشكيل العقول الجمعية وقتئذ.
وأصبح الإنسان فى تلك الفترة لا يسبح مع التيار ، وإنما يسبح مع تياره العقلي وترك العنان لعقله هو الذي يقود وجهته ، فكان لهم دور فاعل في بناء العقلية النقدية.
وأيضا ما فعله فلاسفة الإسلام ولا سيما الكندي الذي تحدى بآراءه في خلق العالم جل فلاسفة الإسلام الذين جاءوا بعده الذين قالوا بقدم العالم معتمدا على فكرة التناهي تناهي جرم العالم وأن كل شيئ إلى زوال.
أيضا دخل في تحديا عقليا مع حالة البذخ والترف التي كان سائدة في بلاط الملوك والأمراء وقال أن الفضيلة في التوسط والاعتدال ، وهو بذلك وضع نظاما أخلاقيا سار عليه كثير من الناس في عهده ، فوظف عقله الفردي لخدمة العقل الجمعي.
وهكذا الإمام الغزالى الذي وجه الزهد والتصوف وجهة أخرى خلاف ما كان سائدا في القرون الثلاثة الأولى للهجرة ، فطالب بالجد والاجتهاد والعمل.
ولا يقل الأمر عند فلاسفة المغرب وخصوصاً ابن رشد الذي دعا إلى إعمال العقل في كل شيئ مستخدما التأويل لخدمة القضايا المعاصرة وقتذاك.
وإذا كان الأمر كذلك عند فلاسفة العصور الوسطى ، فكذلك كان الحال فى العصر الحديث ، فها هو توماس هوبز يقدم خمسة قوانين للنهوض بمجتمعه ، أهمها نشر السلام ، والوفاء بالعهود ، والإحسان إلى الآخر ، قدم منظومة قيم لو سار عليها العالم بأسره لانضبطت دفته ، وكذلك جون ستيوارت مل الذي وظف عقله لخدمة مجتمعه في كيفية التحول أخلاقيا من الأثرة إلى الإيثار ، من المنفعة الفردية إلى المنفعة العامة دونما إضرار بالمنفعتين.
ثم يأتي كانط محاولا أن يرفع عقله الفردي مكانا عليا معتقدا أن الصرامة والجفاف العقلي هو الذي يقودنا إلى الجادة والصواب ، لكن هذه الصرامة العقلانية الفردانية لفظها العقل الجمعي لأنه لم يستوعبها ولم يستوعب معطياتها ، ومن ثم راح كانط يخفف من حدة هذه الصرامة العقلية ، وبدأ العقل الجمعي يستوعبها خصوصا عندما تحدث العقل الفردي الكانطي عن المعارف القبلية والمعارف البعيدة، المعارف المكتسبة والمعارف الفطرية التي تتطبع نقشا على العقل الجمعي.
أما في عصرنا فهل يستطيع العقل الجمعي أن ينصهر ويذوب في العقل الفردي ، بمعني هل سيقدمان على دراسة قضايانا على كآفة مستوياتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، هل سيتفقان على وضع حلول ناجحة لأزماتنا المتكررة والتي تأتينا تترا ، فرادى وجماعات.
ما أن نفرغ من حل إحداها إلا أن تطل علينا الأخرى من وراء حجاب أو تظهر أمامنا متحدية عقولنا دون ستار وحجاب، مخاطبة العقول، ها أنا أتحداكم أن تقدموا حلولا، فهل ستقبلون التحدي؟!.
قضايانا ملحة ومستحدثة ومستجدة ، وخطيرة ، لكنها ليست عصية الحل ، وكما قلت باتحاد العقول وعدم تشتتها وتشرزمها سنجد الحلول ، عن طريق الجدة في التفكير المبني على الأصالة متخذينها قاعدة لانطلاقنا نحو آفاق المستقبل.
نعم مشكلاتنا كثيرة وكبيرة و خطيرة ، لكن كل ذلك سيزول بزوال المؤثر ، والمؤثر هنا ترك العقل الفردي يفكر ولا يناقش ، وهذه حقا مشكلتنا ، نحتاج من يفكر لنا ، فلماذا لا نفكر تفكيرا جمعيا جماعيا ونجلس نتبارى ونتسابق حول هذه الأفكار أيها يصلح وأيها لا يصلح ، أيها يتفق عليه الجميع ، وأيها لا يتفق عليه الجميع.
نعم لكل عصر من العصور مشكلاته ولكل عصر عقوله ومعقولياته.
فواقع كل عصر ومستحدثاته هو الذي يشكل عقله وفقا لما تقتضيه الضرورة ووفقا لما تقتضيه الحاجة.
المهم أن العقول لا تتوقف عن التفكير لأنها لو توقفت ستتوقف الحياة وستتحول حياتنا إلى موات اكلينيكي ، جسد موضوع على أجهزة تنفس ورئة اصطناعية ما أن تخلع عنها الأجهزة تفارق الحياة ، هكذا العقول إذا فارقتها الحياة انتهت وإذا ما انتهت لا ترجو منها فائدة لأنها ستصبح زبدا ، وأما الزبد فيذهب جفاءا ، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
والذي يمكث فى الأرض هو العقل الفاهم الباصر المستنير.
**(أستاذ الفلسفة الإسلامية.آداب حلوان)