لم يعد مفهوم القوة الناعمة مجر لفظ عادي لفهم تطور قنوات التبادل الثقافي، بل اندمج كبعد استراتيجي ضمن أدبيات الجيوبوليتيك المعاصرة. في كتابهما الجيوبوليتيك يعرف لورو و ثيال بأنها قدرة الفاعل على أن يفرض نفسه كنمودج يحتدى به للتنظيم السياسي الاجتماعي وكحامل لواء قيم كونية، وهي عامل أساسي لكل سياسة قوة في الوقت الحالي.
في حين يذهب الكاتب الأمريكي جوزيف ناي في تعريفه للقوة الناعمة أنها السلطة بمفهومها الواسع وهي القدرة على الحصول على ما يبتغيه فاعل من جانب فاعل آخر، عبر استثمار عدة موارد قوة في يده. فهناك عوامل إكراه أكيد، لكن هناك أيضا القدرة على الجذب والإبهار.
وترتبط القوة الناعمة بقدرة صناع القرار في كل بلد على التخطيط والتعبئة وتحديد الأهداف، إلا أن حسابات القوة الناعمة لا تقتصر فقط على عمل النخب السياسية، بل هي نتاح وعمل المجتمع المدني كافة في تحقيق المصلحة الوطنية وتصدير صور وأفكار إيجابية وقوية عن المجتمع والدولة.
وإن كان نضج مفهوم القوة الناعمة وانتشاره في الأدبيات الاستراتيجية العربية لم يولد بعد بالشكل الصحيح، الشيء الذي يفسر اتباعنا لنماذج أخرى في شتى المجالات. ويرى جوزيف ناي ويجزم أيضا بأنه لا يمكن لأي دولة أن تكون قوة هامة ومؤثرة ما لم تنجح في تحقيق التواؤم بين القوة المادية والقوة الناعمة.
ألم يحن الوقت، إذن، لنستثمر في الثقافة كقوة ناعمة وقوة كونية فرضت نفسها على الساحة العالمية وفي العلاقات الدولية؟ ماذا ننتظر لنبني مشروعا عربيا قويا يهدف تصدير ثقافتنا للآخر؟ أليس كل ما يفهمه الغرب عنا هو نتاجهم هم وليس نحن، أي دراسات وأبحاث المستشرقين؟
فالثقافة لم تعد من الكماليات أو ترفا أو رفاهية بل قيمة مضافة تعود علينا بأرباح سياسية واقتصادية كبيرة، في إطار مشروع عربي متكامل، بين كل الدول، وسياسة ثقافية بعيدة الأمد لتحقيق المبتغى في إطار دبلوماسية ثقافية كوجه قوي لسياسة القوة الناعمة التي تشمل كل المجهودات الرامية إلى ربط الآخر بكل ما يجب معرفته عنا عن طريق:
برامج لصناعة فخر وطني، مجهودات جبارة لنشر اللغة الوطنية وعدم الاستخفاف بها وإعطائها قيمة كبيرة بين اللغات، دعم النموذج الوطني والمجتمعي والثقافي والسياسي، نشر الفكر المحلي وتدفقه اتجاه النخب الأجنبية، إشاعة القيم الوطنية والمحلية نحو الجمهور الآخر.
فعن طريق هذه الدبلوماسية الثقافية، تتمكن الثقافة كقوة ناعمة في بلورة عملية إيصال ناجحة لنقل حياة وثقافة شعوبنا العربية، للأمم الأخرى خدمة للمصلحة الوطنية أولا وأخيرا.
يقول بيار أنطوان بلاكفان في مقال عنونه بالإمبراطورية الخفية: القوة الناعمة والهيمنة الثقافية، يقول فيه: سواء نعلق الأمر بالمسلسلات، مطاعم الوجبات السريعة، أغاني الراب السريعة والسوقية، أفلام هوليود التجارية، يتحدث البعض عن عمليات استتباع وتدجين ثقافي يومي نعيشه كأوروبيين في مأكلنا وملبسنا وذائقتنا وإيقاع حياتنا.
لم يخطأ بلاكفان، إنه موت بطيء بالفعل، ومبرمج للروح والذاكرة، إنه احتلال ثقافي وإيديولوجي، أتى على الأخضر واليابس بشكل غريب.