في نقد الهويات القاتلة
ولعل مشكلتنا اليوم، تكمن في استبعاد الثقافة العربية التاريخية من توجيه الثقافة العامة المسيطرة والثقافة غير المباشرة، وقد رأينا أن العلاقة بين الثقافة المباشرة وغير المباشرة في مجتمع ما علاقة جدلية، وعندما تضطرب هذه العلاقة فإن الخلل سوف يحدث داخل الثقافة غير المباشرة، إذ تفقد مرجعيتها التاريخية التي تشكل مقياساً وموجهاً ومقوماً وداعماً لها في وجودها اليومي الذي يتعرض باستمرار إلى هجوم الثقافة المباشرة الحديثة ذات المصدر الغربي.
كما أن الخطر الحقيقي الذي يهدد الهوية الثقافية العربية اليوم لم يعد موجهاً إلى الثقافة المباشرة العربية الحاضرة، فهي في واقعها غربية وتغريبية لا أصالة لها، ولم تستطع أن تتأصل في المجتمع العربي الحديث، وهي لا تشكل هويته الحقيقية، وإنما الخطر في تلك الهوية المزيفة التي نجدها لدى بعض المثقفين العرب المعاصرين المتملقين للغرب ومنسلخين من جلدهم ووطينتهم.
هناك شرخ في الهوية العربية المعاصرة يكمن في انفصال الثقافة غير المباشرة في المجتمع العربي المعاصر عن رصيدها التاريخي وذاكرتها الثقافية المتمثلة بالثقافة المباشرة التي هُمّشَت واستُبْعِدت واستُبْدِلت بثقافة مباشرة غريبة ترفضها الثقافة غير المباشرة في المجتمع أو على الأقل لا تقبلها. كما أن أن الثقافة غير المباشرة عندما أصبحت من غير عمق تاريخي ثقافي، فقد أصابها الخلل وبدأت تُخْتَرق بوسائل وطرق ومفاهيم غريبة.
لقد مضى ما يناهز قرن على بداية النهضة العربية، وأعتقد أنه حان الأوان لطرح مسألة “النهضة” للتساؤل والتمحيص، فنعرف مالها وما عليها. وحين ننظر إلى ما نحن فيه وخصوصا منذ اندلاع الخراب العربي فنرى أننا في كل مواقفنا لا ننطلق من فعل واعٍ منظم ينطلق من معرفة دقيقة بواقعنا، وإنما ننطلق في مواقفنا غالباً من ردود فعل على ما يصدر من الآخر تجاهنا وخصوصا الغرب.
إلا أننا لا يمكن فهم واقعنا إلا بتحليل العلاقة بين السياسي والثقافي وفهم السلطة فهما حقيقيا. فالسلطة ليست موضوعاً سياسياً صرفاً يتجسد في كيان ما، وإنما نقصد بها وضعية معقدة للعلاقات في مجتمع ما، وهي علاقات تُمارس انطلاقاً من نقاط لا حصر لها، وفي إطار تناسبات متحركة غير متكافئة. وأي سلطة هي علاقة يجب تحليلها وفهمها من خلال منطلقين: الأول الذي تصدر عنه الرسالة أو الأمر، و الثاني الذي يتلقى تلك الرسالة أو يخضع لذلك الأمر.
وكل فرد في المجتمع هو عضو فعال في خلق السلطة، فهو من يصنع السلطة، ثم ينتمي، في إطار النظام الإنساني، إلى واحد من أشكالها، ويقوم بأدواره الاجتماعية انطلاقاً من هذا الانتماء، ويتكيّف في سلوكه معه. إن هذا يعني أنه ينطلق في وجوده السلطوي الاجتماعي من الحرية إلى الالتزام، ومن الاختيار إلى الإكراه، فالسلطة لا تتولد من تعارض بين المُسيطِر ومن يقع تحت السيطرة، وإنما من علاقة تنشأ بين الجانبين معاً.