محمد سبيلا .. رائد الحداثة في ذكرى وفاته
لم يكن مثقفا عاديا، ولا فيلسوفا عاديا، كان من هواة الشغف الفكري، ونادرون من لا يركنون للجاهز ومحمد سبيلا كان واحدا منهم. صاحب مشروع فكري، من رواد الفكر الفلسفي المعاصر، مثقف فاعل، شكلت إنتاجاته وأفكاره غاية لتطوير الفعل الفلسفي ليس في المغرب وحده بل بالوطن العربي. كان محمد سبيلا أحد السباقين للتأكيد على أهمية الفكر الفلسفي كمسار لنشر القيم وتحرير الاجتهاد الإنساني في قراءة الواقع بالشكل الصحيح.
نجح سبيلا في تأكيد الانتماء إلى زمن العالم الحاضر، إلى الحداثة، شجع الإبداع في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، وحث على التفكير في مهام الفكر وأدوار المثقف في مواجهة حشود التفاهة والغباء. ناصر التفكير في قضايا الروابط الاجتماعية والوطنية والتفكير الجدي في كل القضايا المتصلة بالوجود المشترك والديمقراطية وتحقيق القانون.
كان لي شرف استضافته قبل شهور من وفاته في ندوة فكرية حول دور المثقف اليوم، ورغم ظروفه الصحية إلا انه قبل أن يشارك رفقة ثلة من المثقفين العرب من الجزائر ومصر واليمن. دافع عن دور المثقف العضوي، وكيف يمكنه إحداث تغييرات في المجتمع إذا ما ناضل من اجل أفكاره. فالراحل ينتمي للجيل الذهبي من المفكرين المغاربة كمحمد عابد الجابري، عبدالكريم الخطيبي، محمد الوقيدي، عبدالله العروي، فاطمة المرنيسي، المهدي المنجرة، سالم يافوت وعبدالصمد الديالمي ومحمد جسوس والائحة طويلة ، يعتبرون من خير ما جادت به الأقلام المغربية.
فقد عرف عن المغرب انه بلد عقل أكثر منه بلد أدب، وهي صفة وصفوه به المشارقة، ولم يخطؤوا كثيرا، وهذا لا يعني أنه لا توجد كتابات أدبية، والدليل أن العديد من هؤلاء العقلانيين لهم روايات وأشعار، إلا مشاريعهم الفكرية والعقلية طغت على الساحة الفكرية العربية كثيرا، حتى صار المغرب بلد العقلانية والعقل.
لذلك كانت سنوات السبعينيات والثمانينات والتسعينيات فترة ذهبية، وهي مرحلة توهج وبروز الأسماء الفكرية المغربية، إلا أن العقدين الماضيين عرف رحيل العديد من الأسماء الكبيرة فكريا، الذين أغنوا حقول النقاش والعقلانية بمشاريع فكرية كبيرة ومنجزات في غاية الأهمية.
كان محمد سبيلا رائد الحداثة العربية بامتياز، ويمكننا أن نستمد مشروعية هذه التسمية من مشاريعه الفكرية: “مدارات الحداثة” 1987، “الأصولية والحداثة” 1998، “دفاعاً عن العقل والحداثة” 2020، “مخاضات الحداثة” 2007، “الشرط الحداثي” 2020، فضلاً عن كتبه الأخرى التي كانت امتداداً للنقاش حول هذا المفهوم الملتبس الذي ساهم سبيلا في التنظير له، وفي نقده أيضاً: “زمن العولمة وما وراء الوهم” 2005، “في الشرط الفلسفي المعاصر” 2007، “في تحولات المجتمع المغربي” 2011.
كان تنويريا، أراد أن يدفع بالمجتمع نحو الأمام، قاوم كل من يريد ان يجدف عكس التنوير، دافع عن تحديث الفكر والدفاع عن القيم العقلانية، من اجل مجتمع حداثي. فالحداثة عند سبيلا بنية فكرية كلية، حين ترتطم ببنية اجتماعية تقليدية تعرّيها وترفع عنها قدسيتها. في نظره كل منظومة فكرية قابلة للنقد والمساءلة، ووظيفة العقل الحديث هي تفكيك البُنى بعيداً من كل نظرة وثوقية.
كان فيلسوف الحداثة ينتقد الفكر التقليدي لأنه حين ينظر للمستقبل، فهو ينظر إليه باعتباره عودة للماضي أو تشكّلاً جديداً له، لا باعتباره زمناً آخر ينطلق من الحاضر ويقطع مع الماضي نفسه. يرى سبيلا أن الحداثة ركزّت في بدايتها على الإنسان باعتباره محوراً لكل التحولات، وبهذا أعادت الاعتبار إلى المسألة الإنسانية.
قسّم محمد سبيلا جماعة المثقفين إلى ثلاثة أنواع: المثقف التقليدي، المثقف الرسمي والمثقف النقدي، ويمكن اعتباره من الصنف الثالث من خلال مشاريعه الفكرية. ويبدو أن الخيار الحداثي في فكر الفيلسوف التنويري، كان منسجماً مع سيرته وتجربته الحياتية.
اشتغل محمد سبيلا بالعمل السياسي مبكرا، فانخرط في صف المقاومة الوطنية ثم ما لبث أن انتقل إلى الخط التقدمي اليساري، إلا انه اعتزل السياسة وغادر كهوفها وأغلق بابها، بعدما تعرض لما يسميه بـالخيانة. وهنا يعيش سبيلا نفس التجربة التي عاشها العديد من المفكرين والقياديين الآخرين أمثال محمد عابد الجابري وعبدالله العروي اللذين جربا مجال العمل السياسي، إلا أنهم اكتشفوا لاحقاً أن مجال الفلسفة أعمق وأكثر وضوحا ونبلا أكثر استمرارية في التاريخ.
رحل محمد سبيلا وترك الحداثة بلا ناقد كما ترك محمد عابد الجابري العقلانية بدون رائد، اليوم نتذكره كما ستتذكره الأجيال العربية القادمة وكل المثقفين والمفكرين الذي أغنوا الساحة الفكرية بمشاريعم الخالدة.