هل مقولة وجود يساريين وغياب اليسار أصبحت حقيقة اليوم، لماذا هذا الغياب الكبير عن الساحة السياسية، وخصوصا لما تم دفعه للمعارضة قسرا، أي دور يمكن أن يلعبه اليوم اليساريون الحقيقيون في إعادة بناء اليسار الجديد، يسار ما بعد الانتخابات الأخيرة ويسار ما بعد الجائحة واليسار الحقيقي الذي يحتاجه المجتمع اليوم، يسار المواقف المشرفة، واليسار الواقعي الحقيقي.
بحاجة ليسار بحس وطني واجتماعي، لبناء المغرب المأمول والذي بدأت ملامحه اليوم في التشكل، كقوة إقليمية وكفاعل ومقرر في سياسات المنطقة. اليسار عليه أن يساير هذا التحول الكبير، الذي عرفه المجتمع المغربي، وأن يعمل جاهدا على استثمار فكره وتاريخه في مواصلة عملية البناء التي بدأت تتجلى بوضوح.
اليسار اليوم يعاني من الكثير من المعيقات، معيقات البناء الجديد، لأنه لم يحسم بعد مع الوعي التاريخي ويفتقد لآليات التعامل معه وهو النقد الذاتي، فالعديد من اليساريين يعيشون اليوم في جلباب اليسار القديم ويحملون شعاراته من دون مضامين حقيقية تساعده على الوقوف من جديد.
اليسار اليوم يعاني من الفراغ التنظيمي الحقيقي و الغياب الجماهيري، وغياب الأطر والكفاءات الحقيقية الحاملة لهم المجتمع وغياب المثقف العضوي المناضل. كلها عوامل تحتم علينا الوقوف هنيهة لتأمل حال اليسار، وإعادة النظر والتقييم في المشروع اليساري الحداثي الجديد، لكن من المؤسف القول أن الكثير من اليساريين اليوم لا يهمهم النقد الذاتي بقدر ما تستهويهم الزعامات ويفضلون الانسحاب من ساحة السجال الفكري والسياسي. ما الذي يحدث بالضبط في دار اليسار؟
اليساريون بحكم مرجعيتهم العقلانية والحداثية، هم أولى ومن المفروض أن يمارسوا النقد والتقييم لكل مراحل العمل السياسي والحزبي، واستخلاص الدروس والعبر والبحث عن البدائل الممكنة من أجل المساهمة الفعلية في بناء وطن كبير، لكن العديد منهم انسحب وترك الساحة للمتطفلين عن اليسار والفكر اليساري والمرجعية النضالية لليسار.
فهل يعتبر سكوت اليسار اليوم، ودخول العديد من الأحزاب في تحالفات وانتدابات لا تمت لليسار بصلة، ربما تكون بداية النهاية للعديد من الأحزاب وربما انتظار عقود ليفرز المجتمع جيلا يساريا جديدا حاملا لمشعل التغيير ومساهما في صنع المجتمع الذي نطمح لبناءه.
ما يعيشه اليسار اليوم هو تحصيل حاصل لمآلات اليسار بعد النكبات المتعاقبة التي عاشتها معظم الأحزاب اليسارية منذ سنوات، والتشرذم الذي لازال يعيشه اليساريون. نكسة اليسار فسح المجال، لدى العامة، لتنامي فكرة افتقاره لمشروع حقيقي يتماشى ومتطلبات المجتمع، كما أن مواقف العديد من اليساريين حول العديد من القضايا زرع الكثير من النفور لدى الناس.
المجتمع في بناءه يتجه دوما إلى الأمام، لكنه يحمل معه دوما إرثا ماضيا يجب الاستفادة منه، وأحيانا التخلص من الكثير من العوارض المعيقة للتطور. والعديد منا ينتقد كل من يطالب بمراجعة الماضي وفهمه والاستفادة منه، وهو نفسه يعيش بأفكار يسارية قديمة لا يريد تجديدها ولا يريد أن يرى إن كانت مطابقة للواقع المعاش أم لا.
دعونا إذن نعيد قراءة التاريخ الوطني والإنساني، وفهم التاريخ اليساري الوطني، لبناء مشروع يساري يليق بمجتمعنا المعاصر، ضرورة حتمية لعودة اليسار ومستقبله يتوقف على أرضية الجدال التي يجب أن تطرح.
المجتمع الحالي بحاجة ليسار يحترم الخصوصيات الدينية والثقافية والهوياتية للعامة، خال من تمظهرات يسار الستينيات والسبعينيات التي كانت سببا في وأد حلم البناء الجديد لليسار، ودعوتنا اليوم في إيجاد صيغة جديدة لطرح أرضية تكون بمثابة بوصلة إعادة تشكيل وبناء مشروع فكري وسياسي ليسار حداثي قوي.
تعتز الأمم، باختلافاتها العرقية والدينية والإثنية، بتاريخها النضالي وإنجازاتها المتواصلة، فرغم الكبوات والصعوبات المعيشية، فكل الإنجازات تعزز في المواطن قيم الإحساس بالهوية الوطنية، بالانتماء التاريخي والجغرافي للوطن، وتقوي التضامن الفعلي المجتمعي.
فأي مشروع يساري مرتقب، يمكن أن يولد من رحم المعاناة والانتكاسات المتواصلة؟ وماذا حضر اليساريون لهذا العرس التاريخي، إذا ما كان هناك يساريون حقيقيون اليوم؟ مشروع يساري يتبنى الفكر الحداثي والمبادئ والنضال من أجل الكرامة والغد المأمول، وأحزاب فعلية تليق أن تسمى أحزاب يسارية.