منح الغزو الروسي لأوكرانيا الهيدروجين بعدًا سياسيًا وإستراتيجيًا عظيمًا، وأصبح العالم لا يرى في الهيدروجين أداة فاعلة لمحاربة التغيرات المناخية فقط، وإنما لتحقيق استقلال الطاقة أيضًا.
وأشار العديد من الخبراء الدوليين في الهيدروجين العالمي إلى أن الكثير من البلدان التي أصدرت إستراتيجيات خاصة بالهيدروجين خلال الأعوام القليلة الماضية، تُسارع الآن لإصدار بيانات أخرى، وضخّ الأموال والاستثمارات الضخمة في هذا المجال. وعبّروا عن تفاؤلهم حول مستقبل الهيدروجين في ظل الأموال والاستثمارات الضخمة التي تُضخ في هذه السوق للمساعدة على تثبيت أركان هذه الصناعة في العالم.
طفت قضية الهيدروجين فوق سقف أحداث أسواق الطاقة العالمية، خاصة خلال الأعوام القليلة الماضية، ولكن يجب التذكير به أن القضية في الأساس ليست قضية الهيدروجين في حد ذاته، ولا قضية ما يسمى الأمونيا الخضراء، ولا عملية تحول الطاقة التي يتحدث عنها الجميع.
ولكنها في الأساس قضية التغير المناخي، وضرورة محاربة هذه الظاهرة، لا سيما بعد التسارع الكبير في هذا الاتجاه الذي شهده العالم خلال الأعوام الـ10 الأخيرة؛ إذ يرى العالم في الهيدروجين مصدرًا للوقود النظيف وأداة مهمة وفاعلة لقيادة الحرب ضد التغيرات المناخية.
كما لا يمكن إغفال أن أزمات الطاقة المتلاحقة التي شهدتها الأشهر الأخيرة الماضية خاصة أزمة الغاز ولا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا- قد أعطت الهيدروجين بعدًا سياسيًا وإستراتيجيًا عظيمًا؛ ما أسهم في إحداث زخم حقيقي وكبير حوله.
وأصبح العالم لا يرى في الهيدروجين -فقط- أداة فاعلة لمحاربة التغيرات المناخية، وإنما وسيلة مهمة لتحقيق ما يمكن أن نسميه “استقلال الطاقة”، التي أصبحت قضية ملحة لكثير من الدول هذه الأيام.
ويُعدّ الهيدروجين الوقود الوحيد -حتى الآن- الذي لا يصدر عن استخدامه أي نوع من الانبعاثات المُلوثة للبيئة، سواء الكربونية أو غير الكربونية. ولذلك فإن التوسع في استخدام الهيدروجين وقودًا ومصدرًا للطاقة -لسد احتياجات البشرية اليوم على النطاق الصناعي أو نطاق التدفئة في العديد من البلدان- سيكون له أثر كبير للغاية في تقليل حجم الانبعاثات الكربونية المُتسببة في التغيرات المناخية. وهو ما حدا بالكثير من الدول لإعلان اعتمادها على الهيدروجين وقودًا للمستقبل؛ إيمانًا منها بأن هذا الوقود النظيف سيساعدها في الوصول إلى الحياد الكربوني خلال الأعوام الـ20 أو الـ30 المقبلة.
الهيدروجين مهيأ جيدًا لأداء أدوار عدة في عملية تحول الطاقة، ويمكن حصر هذه الأدوار في ثلاثة وظائف رئيسة، أولًا: استخدام الهيدروجين بصورة مباشرة وقودًا ومصدرًا للطاقة في احتياجات البشرية اليومية، سواء على نطاق الصناعة أو النقل أو على نطاق التدفئة؛ ما سيؤدي -بالضرورة- إلى تقليل كبير جدًا في حجم الانبعاثات الكربونية الضارة للبيئة والمُتسببة في التغيرات المناخية.
ثانيًا: استخدام الهيدروجين مخزنًا للكهرباء المتولدة من الطاقات المتجددة الأخرى كطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
وهناك العديد من الأبحاث التي بدأت منذ أعوام، والمستمرة حتى الآن؛ لتعظيم الدور الذي من الممكن أن يؤديه الهيدروجين في هذا المجال، إيمانًا من الجميع بأنه إن حدث فسيؤدي إلى تسارع كبير جدًا في عملية تحول الطاقة، التي نتطلع لأن تجرى بأسرع ما يمكن.
ويتمثل الدور الأخير في الدور الذي كان يؤديه الهيدروجين لأعوام طويلة في تغذية الصناعات الأخرى، مثل صناعة الأمونيا والأسمدة وصناعة البتروكيماويات، وهو دور سيؤديه الهيدروجين -أيضًا- في المستقبل.
نقطة الاختلاف ستكون -فقط- في التحول من استخدام الهيدروجين الضار للبيئة في هذه الصناعات، والانتقال إلى هيدروجين مُنتج بطرق صديقة للبيئة.
وأدت أزمة الطاقة العالمية الأخيرة وأزمات أخرى إلى إعطاء الهيدروجين أبعادًا أخرى في عملية تحول الطاقة التي نتطلع إليها، إذ اكتسب الهيدروجين بعدًا سياسيًا وإستراتيجيًا، حيث رأته الكثير من الدول أداة مهمة للغاية لتحقيق استقلال الطاقة.
ورأينا الكثير من البلدان، التي قد أصدرت إستراتيجيات خاصة بالهيدروجين خلال الأعوام القليلة الماضية، تسارع -الآن- لإصدار بيانات أخرى، وضخ الأموال والاستثمارات الضخمة في هذا المجال.
وكان آخر هذه البيانات من جانب المفوضية الأوروبية والاتحاد الأوروبي بالموافقة على ضخ أكثر من 200 مليار دولار لتسريع عملية الانتقال إلى الهيدروجين في أوروبا وخارجها.
ومن المتوقع أن تحتذي دول أخرى بما يحدث في الاتحاد الأوروبي؛ ما سيقوّي ركائز سوق الهيدروجين، وسيوفر احتياجًا أكبر للهيدروجين في سوق الطاقة العالمية.
هناك العديد من التحديات التي تواجهها، فهناك أبعاد واتجاهات مختلفة، سواء في اتجاه إنتاج الهيدروجين بطريقة اقتصادية أكثر فاعلية، أو في قطاع نقل الهيدروجين بين أسواق الإنتاج وأسواق الاستهلاك، و-أيضًا- على مستوى الاستخدامات الممكنة للهيدروجين في القطاعات المختلفة.
ولكن ما يبقي الخبراء في هذا المجال متفائلين حول مستقبل هذه الصناعة هو التسارع الكبير الذي حدث خلال الأعوام الماضية، لا سيما الأعوام الخمسة الأخيرة، والذي فاق كل التوقعات.
فقد رأينا أموالًا واستثمارات ضخمة تُضخ في هذه السوق للمساعدة على تثبيت أركان هذه الصناعة في العالم، ودخلت الكثير من الشركات التي تعمل في نطاق النفط والغاز -الآن- إلى صناعة الهيدروجين، وهو ما يُعد دعمًا كبيرًا لهذه الصناعة سنرى أثره في القريب العاجل جدًا.
كما رأينا الكثير من الدول والحكومات تُصدر إستراتيجيات وسياسات لفرض القيود على مصادر الطاقة المُلوثة للبيئة، وعلى الجانب الآخر، تدعم الأبحاث العلمية في مجال إنتاج الهيدروجين على مستوى أكبر للوفاء باحتياجات الأسواق الرئيسة في العالم.
نعتقد أن كل هذه الأمور تجعل الخبراء المختصين متفائلين حول حجم التسارع الذي سنراه في هذه الصناعة خلال الأعوام القليلة المقبلة.
هناك شقّان رئيسان في هذه القضية، الشق الأول هو أن هذه الشركات تعلم علم اليقين أنه سيكون هناك انخفاض، وإن كان بمعدلات محدودة في استهلاك النفط والغاز خلال الأعوام القليلة المقبلة.
ولكن على المستوى البعيد، أي على مدار الأعوام الـ20 أو الـ30 المقبلة، سيكون هناك انخفاض كبير للغاية في هذه الأسواق، ولذا فمن المهم جدًا لهذه الشركات أن تبدأ إعداد أدوار لها في سوق الطاقة المتجددة، والهيدروجين على وجه الخصوص.
يتمثّل الشق الثاني في السياسات التي خرجت بها الكثير من الدول التي تضع القيود على استخدام النفط والغاز ومصادر الوقود الأخرى المُلوثة للبيئة، وهذا في حد ذاته وضع ضغوطًا كبيرة للغاية على هذه الشركات، ليس فقط على مستوى تحول الطاقة والتوجه نحو الطاقات النظيفة في مشروعاتها المستقبلية، ولكن -أيضًا- في محاولة معالجة أسواقها الحالية لتكون أكثر صداقة للبيئة مما كانت عليه.
وهذين هما الشقان الرئيسان وراء ما نراه، وما سوف نراه في المستقبل القريب من شركات ضخمة بدأت في الانتقال من سوق النفط والغاز العالمية إلى أسواق الطاقة المتجددة، لا سيما سوق الهيدروجين.
ومما لا شك فيه أنه على المدى البعيد سيكون للهيدروجين تأثير كبير جدًا وضخم في صناعة النفط والغاز العالمية، ونعني هنا خلال الأعوام الـ20 أو الـ30 المقبلة، ولكن حتى يتم بلوغ هذه المرحلة، سيظل الطلب على النفط والغاز ثابتًا بمثابة مصدرين رئيسين للطاقة في هذا العالم.
ونعتقد -أيضًا- أن ما أثرى هذه السوق -خاصة سوق الغاز- هو ما اتفقت عليه بعض الحكومات في بعض البلدان بضرورة الاعتماد على ما يُسمى “الهيدروجين الأزرق” على المدى القريب لتسريع عملية انتقال الطاقة.
ويجب -أيضًا- ألا ننسى أن الاحتياج إلى النفط والغاز سيستمر في بعض الصناعات، خاصة الصناعات البتروكيماوية وإنتاج البلاستيك والصناعات الأخرى التي تحتاج إلى النفط والغاز، ربما ليس بمثابة وقود أو مصدر للطاقة، ولكن بصفتها مواد مغذية لإنتاج هذه المنتجات التي يحتاجها العالم الآن وفي المستقبل.
ستظل هناك سوق على المستوى القريب للنفط والغاز. ولكن بما نراه من اتجاه عالمي لمحاربة التغيرات المناخية، فمن المتوقع أن يحدث انخفاض شديد جدًا في احتياجات العالم من النفط والغاز خلال الأعوام الـ30 المقبلة.
ويتفق جل الخبراء على استمرار أسواق النفط والغاز، ولكن ليس لاستخدامهما وقودًا، ولكن لتغذية صناعات أخرى عديدة مثل صناعة السيارات والبلاستيك والبتروكيماويات، فهذه الصناعات تُعد ركيزة مهمة للإنسانية لأنها تحتاج إلى المُنتجات المُصنعة منها، وسوف تظل هناك أسواق لهذه المنتجات، وبالتالي سوف تكون هناك حاجة دائمة للنفط والغاز.
ويُعتقد أن شمال إفريقيا مهيأة لأن تؤدي دورًا مهمًا في هذه الصناعة الناشئة كما أدّت لأعوام عديدة دورًا مهمًا في أسواق الطاقة التقليدية من النفط والغاز؛ وذلك لعدة أسباب من أبرزها توافر الموارد الطبيعية الرخيصة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وأهم ما يميز هذه المنطقة هو قربها من السوق المتوقعة لصناعة الهيدروجين وهي السوق الأوروبية، فإذا علمنا أن العائق الأكبر الآن لصناعة الهيدروجين هو عملية النقل بين الأسواق المُنتجة والمُستهلكة، فإن هذا يعني أن هذه المنطقة هي الأقرب لسوق الاستهلاك الأوروبية؛ لذا فهي مهيأة جدًا لتؤدي دورًا محوريًا مهمًا جدًا في صناعة الهيدروجين العالمي.
ورأينا، خلال الأسابيع القليلة الماضية، إصدارات جديدة من المفوضية الأوروبية تتضمن خططًا لاستيراد ما لا يقل عن 10 ملايين طن من الهيدروجين بحلول عام 2030.
وهذا يعني أن الباب سيكون مفتوحًا أمام الدول التي تريد أن تُصدر الهيدروجين إلى الاتحاد الأوروبي، وهذه المنطقة بحكم قربها ستكون مهيأة بصورة أكبر من مناطق أخرى في العالم لأن تأخذ السبق في هذا الاتجاه.
واستخدام خطوط الأنابيب الموجودة -حاليًا- في عدد كبير من الدول لنقل الغاز الطبيعي،
لنقل الهيدروجين يواجه معوقات كبيرة جدًا دون الدخول في تفاصيل التقنية؛ لأن هذه الأنابيب ليست مُصممة لتحمل غازًا مثل الهيدروجين؛ ما يجعل هناك حدودًا ومعوقات لاستخدامها في نقله.
وهناك أبحاث تجري -حاليًا- في العديد من الدول -مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وعدة دول أوروبية- لبحث كيفية الاستخدام الأفضل لهذه الأنابيب. ولكن معظم هذه الأبحاث قد أفضت إلى أنه لا يمكن استخدام خليط أكثر من 20% بين الغاز الطبيعي والهيدروجين في هذه الأنابيب، وإن كان يمكن استخدامها على المدى القريب للمساعدة في عملية تحول الطاقة، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها حلًا طويل الأمد.
النقطة الثانية أنه يجب أن نتذكر أنه توجد خطوط للهيدروجين في عدة دول، من بينها الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا والمملكة المتحدة، وفي عدة دول أوروبية أخرى؛ لذا فعمليات نقل الهيدروجين عبر الأنابيب لا تواجه أي مشكلات على المستوى التقني.
ونعتقد أن المشكلة الأكبر تتمثل في التكلفة الباهظة لبناء خطوط الأنابيب، ولكن بما رأيناه من تشجيع للاستثمارات في نطاق الهيدروجين بصفة عامة، لا سيما من قبل دول مهمة -مثل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية- فإن ذلك سوف يؤدي إلى إيجاد سوق لخطوط أنابيب الهيدروجين -في القريب العاجل-؛ كونها الحل الأمثل لتسريع عملية استخدام الهيدروجين في الاحتياجات اليومية المختلفة الصناعية والحياتية.
وعتقد أن النقطة الأهم هي العدد الكبير جدًا من مشروعات الهيدروجين التي رأيناها حول العالم من اليابان والصين شرقًا إلى الولايات المتحدة الأميركية وتشيلي غربًا، وبالطبع في أوروبا، كما يُخطط -الآن- لمشروعات ضخمة في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج وشمال أفريقيا.
وأفضل ما يميز هذه المشروعات أنها لم تركز على قطاع واحد، ولكن امتدت إلى قطاعات مختلفة، فقد رأينا مشروعات للهيدروجين في قطاعات الأسمدة والحديد والصلب والنقل البحري والنقل البري والجوي. وسوف يُحدث هذا فرقًا كبيرًا جدًا في صناعة الهيدروجين خلال الشهور القليلة المقبلة؛ لأن هذه المشروعات قد أثبتت تقنيًا إمكان استخدام الهيدروجين.
والخطوة المقبلة -الآن- التي يتحدث عنها الجميع هي كيف يمكننا أن نحسّن اقتصادات هذه المشروعات.
النقطة الثانية هي التعاون الدولي الحادث بين العديد من المنظمات والشركات والدول، وأعتقد أن هذا في حد ذاته وسيلة مهمة جدًا سوف تثري صناعة الهيدروجين، وقد بدأنا في رؤية ثمار هذه المحادثات والمعاهدات التي تدعم هذه الصناعة بصورة أكبر وتسارعها للانتقال إلى المرحلة التالية.
وتُعد منظمة هيدروجين أوروبا من أهم المنظمات المعنية بالهيدروجين على مستوى أوروبا ومقرها بروكسل في بلجيكا، وهناك 350 عضوًا في هذه المنظمة يمثلون كامل أعضاء الاتحاد الأوروبي. وتعمل مع صانعي القرار كافّة -سواء في الاتحاد الأوروبي أو البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية- لتثبيت ركائز صناعة الهيدروجين في الاتحاد الأوروبي. وتهدف إلى تسريع عملية انتقال الطاقة ليس فقط على مستوى قارة أوروبا، وإنما في العالم أجمع بالعمل مع شركائنا داخل أوروبا وخارجها.
كما نتابع السياسات بصفة دورية ونتناقش بصفة أسبوعية، وهناك اجتماعات لمتابعة السياسات والإستراتيجيات المختلفة التي تصدر سواء عن المفوضية الأوروبية أو عن الدول الأوروبية أو الدول الأخرى، إيمانًا منا بالدور الذي تؤديه السياسات في وضع ضغوط أكبر على الأسواق لتشجيع الجميع على الانتقال إلى سوق الهيدروجين النظيف للمساعدة في محاربة التغيرات المناخية.
ومنذ نحو 3 أو 4 أشهر، عقدت شراكة مع المفوضية الأوروبية فيما يُسمى “إنشاء شراكة الهيدروجين النظيف”، وهناك خطوات بدأت في هذا الاتجاه، أبرزها ضخ ما يقرب من ملياري يورو (ملياران و320 ألف دولار أميركي) في مجال البحث العلمي لتشجيع الجميع على خلق التقنيات الأكثر حداثة التي تحتاجها هذه الصناعة لتتسارع إلى المستوى الذي ننشده.
وأكدت القمتان الخاصتان بالهيدروجين مرة أخرى أهمية الدور الذي سيؤديه الهيدروجين في محاربة التغير المناخي وعملية تحول الطاقة.
كما سلطتا الضوء على ضرورة التعاون الدولي بين جميع الأطياف وجميع اللاعبين في هذا المجال من هيئات وشركات وحتى على مستوى الحكومات، ويُعتقد أن هذه الخطوة يمكن أن تساعد في إحداث تسريع كبير في تطور هذة السوق الناشئة الواعدة.