كلما جاء الصيف نتذكر “رجال في الشمس”
نعم كل ما جاء الصيف، نتذكر رحيل رجل مات في عز شبابه، نتذكر رجال في الشمس وعائد إلى حيفا والعديد من الروايات والقصص التي أبدع فيها كاتب وصحافي لامع، آمن بقضية ودافع عنها ودفع حياته ثمنا لها، إنه غسان كنفاني.
“في الزمان يولد غسان كنفاني كلما جاء الصيف، غسان كنفاني يأتي في هجير الصيف، ينفجر في بيروت، يتشظى مثل أوزيريس ويوزع الأشلاء على كل مكان في الذاكرة والضمير”، هكذا يحكي عنه الكاتب عزت العزاوي. حتى بعد رحيله فهو يعيش في أعماق كل من يحمل هم القضية ويدافع عنها، غسان كنفاني حي في وجدان القضايا العربية وإشكاليات وتناقضات المجتمع العربي.
ابن شمال فلسطين، وبالضبط مدينة عكا، حيث كان الميلاد، وفي يافا حيث كانت النشأة، لكن في سن الثانية عشر كتب عليه أن يشد الرحال ليعيش متنقلا بين بيروت ودمشق والكويت. رحيله المبكر صنع شخصية الرجل، جعلها تنضج قبل الأوان، غادر يافا في اتجاه لبنان، لكن وجدان غسان كنفاني ظل هناك معلقا للأبد، طابعا ذاكرته بوقائع قاسية.
في لبنان كما في دمشق، لم تكن حياة غسان كنفاني مفروشة بالورود، بل عانى كثيرا قبل أن يدخل الجامعة بعد حصوله على شهادة الثانوية سنة 1952، ويعمل مدرسا لدى وكالة غوث للاجئين. ثم رحل إلى الكويت ليشتغل مدرسا هناك، حيث أقبل على القراءة والمعرفة بشكل كبير. وهناك كانت بداية حياة الكاتب حيث اختطت مسار النضال والكتابة من أجل القضايا العادلة، حيث كتب في سن التاسعة عشر قصته القصيرة الأولى تحت عنوان القميص المسروق، وبدت روايات وكتابات غسان كنفاني تبرز قيمة ووعي هذا الأديب الشاب.
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش، “لدى قراءة كنفاني تكتشف، أولا ودائما، أنه في عمق وعيه، كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وانه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي.” غسان كنفاني كان مثقفا ملتزما صاحب مبدأ وقضية، كتب مقالات سياسية في الكويت باسم أبو العز، وفي بداية الستينيات انخرط في حركة القوميين العرب وعاد إلى بيروت حيث اشتغل في صحيفة الحرية، وفي بيروت عاصمة الفكر كان اللقاء بالمبدعين والمثقفين والتيارات الفكرية والسياسية حيث صقلت موهبته.
كانت كتاباته ملهمة للقضية ولفلسطيني الشتات كما فلسطيني الداخل، اعتبرت شعلة أمل فكري في غد مشرق، يزرع الأمل في نفوس ضاقت بها الدنيا وويلات التهجير.
“تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء، وتشكل سؤال المقاومة الفلسطينية الذي تجاوز خطاب البكاء وانتظار الإغاثة”، هكذا يصف الكاتب الفلسطيني نجوان درويش كتابات كنفاني.
مات الرفاق الثلاثة في خزان البترول في الطريق الصحراوي في اتجاه الكويت، لكن الموت ضل يلاحق كتاباته ويبحث في الموت والمنفى، وجعل هذا البحث شغله الشاغل، في “ما تبقى لكم” وفي “أرض البرتقال الحزين” أو “أم سعد” لم يستطع التخلي عن هذا البحث.
يقول مهند عبدالحميد: “” كان غسان مقاتلاً والقتال يحتمل الموت، وكان لاجئاً والعودة تحتمل الموت، وكان ملتزماً والالتزام يفترض لقاء الموت، في “مسرحية الباب” يقول عماد ” لا أريد الطاعة ولا أريد الماء” أي أن الموت عطشاً أفضل من التوسل إلى مستبد. والموت دفاعاً عن الكرامة الإنسانية، أفضل من الحياة بذل، فلا معنى لحياة بلا كرامة. تنطوي فلسفة الموت عند غسان على مبدأ المفاضلة: أنت لا تستطيع اختيار الحياة، لأنها معطاة لك أصلا والمعطى لا اختيار فيه. اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، وخاصة إذا تم اختياره في الوقت المناسب، وقبل أن يفرض عليك في الوقت غير المناسب، والوقت المناسب الذي عناه غسان هو تحدي الإنسان للظلم والاستبداد ورفضهما إلى المستوى الذي يجعل الموت محتملاً، كثمن لتلك المفاضلة”.
من أشهر ما كتب الراحل، “عائد إلى حيفا”، وهو الحلم الذي ظل يسكنه حتى مات، وهو الحلم الذي لا يزال يسكن كل فلسطينيي الشتات في العودة يوما إلى ديارهم، ثم كتب “رجال في الشمس” وكانت تعبير صارخ عن الحق في الحياة وتعبير دقيق عن واقع المجتمع العربي، ثم رواية “العاشق” و “أم سعد” و ‘ما تبقى لكم” و”الشيء الآخر” والعديد من الأعمال الأخرى التي تركها غسان كنفاني.
رحل غسان ببيروت في صيف سنة 1972 وهو ابن السادسة والثلاثين، فقد أحب الحياة حتى العبادة وعشق الأرض وفلسطين، بسهوله وزيتونه وبرتقاله. لقد مات غسان كنفاني لكن القضية لم تمت، تسكن وجدان الناس، كما يسكنها غسان كنفاني بكتاباته.