من كان الإيمان عدته والإرادة سلاحه يستطيع تحقيق ما يشبه المعجزة
في أحد مكاتب مقر الأجهزة التنفيذية للاتحاد الأوروبي بمدينة بروكسيل كان هنك شاب يقضي فترة تدريب تحت رعاية رئيس المجلس الاوروبي السيد جاك دولور أحد القادة الفرنسيين البارزين الذي تجاوزت سمعته القارة الروبية . كان ذلك الشاب قد أثار الانتباه لجديته وزهده في إغراءات الشباب .فبدل أن يميل الى اللهو والترفيه ، كان يقضي جل أوقاته في الاعتكاف على دراسة ما يقدم له أو يبحث عنه من ملفات تتعدد مواضيعها لتصب في تدبير الشؤون العامة الاقتصادية والاجتماعية ، بل وحتى السياسية ، وذلك بهدف الإلمام بما يسود في الاتحاد الاروبي من جو النقاش المثمر الذي يحتد أحيانا لما يعترضه من مشاكل ، وأيضا بهدف الاطلاع على القرارات المتخذة لتكريس الوحدة الاروبية من أجل أن تكون القارة العجوز مجالا للتعايش والتعاون رغم تعدد القوميات والإثنيات واللغات التي لم تكن عائقا في تحقيق ما وصلت اليه أروبا في معظم دولها من وحدة وتوحيد وتقدم وازدهار
كثيرا ما كان اهتمام ذلك الشاب يتجه للاطلاع ولدراسة ما يتعلق بشراكة الاتحاد الاروبي مع الدول ككثل أو كدول منفردة.وكان اهتمام الشاب ينصب آيضا على ما يجمع بين المغرب والاتحاد الاروبي من روابط تتجاوز الشراكة العادية لترتقي إلى التحالف الاقتصادي وتمتد إلى المجالات الاستراتيجية . لقد كان يفعل ذلك ليخرج بتصورعما يجب أن تكون عليه علاقة بلاده مع مختلف الشركاء ومختلف الدول .
لم يكن جاك دولور يبخل على الشاب المتدرب بالتوجيه والنصح لكي تتم فترة تدريبه التي استغرقت ستة أشهر كاملة كما أراد لها أن تكون ، وفاء بالوعود التي قدمها لصديقه والد الشاب المتدرب ، وهي وعود ترقى الى ما كان يراد أن يضمنه التدريب من تأهيل ليكون الابن في مستوى القيام بالمهام السامية التي تنتظره في وطنه في المستقبل المنظور .
وأتخيل الآن أن الشاب المتدرب كان يدرك أن بلاده مقبلة على تعزيز روابطها بالاتحاد الاروبي ، وبما يتلاءم مع تلك الشراكة المتميزة التي تجمعهما ، ومقبلة أيضا على نسج شراكة مماثلة مع التكتلات الافريقية وبالأخص الغربية منها ، بالنظر ألى أنه كان يدرك أن عليه أن يعمل على تعزيز روابطه بعمقه الافريقي الذي زاده متانة ما تم إنجازه في الأقاليم الصحراوية لبلاده لكي تصبح افريقيا مجالا لتعاون اقتصادي على أمل أن يرقى الى تحالف استراتيجي .
وأتخيل أيضا أن الشاب المتدرب ، وهو مسلح بما يكفي من العلوم والمعرفة التي اكتسبها خلال مراحل دراسته ، كان يدرك حقيقة الأوضاع في بلاده وما يكتنفها من خصاص لم تتمكن من تداركه ، وما يواجهها من مشاكل تعقد بعضها مع مرور الزمن . ومن تم أتخيل أنه في تلك الفترة كان يعتكف على التفكيرفيما يجب إعداده من مخططات للتنمية ، وما تتطلب الأحوال تحقيقه من مشاريع تنهض بالبلاد وتضمن العيش الرغيد لأهلها.
وأتخيل كذلك أنه لو قدر لأي أحد أن يطلع على فحوى الملفات والتقارير التي أعدها ذلك الشاب ، لوجد بعضا مما ابتكرته مخيلته وذهنه من مخططات قطاعية تناولت مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية واختار لها أسماء تتطابق مع ما اعتزم إنجازه فيما بعد
. وهكذا ففي بروكسيل تم تصور ما حملته تلك المخططات من أسماء كالمخطط الأخضر والمخطط الأزرق ، وما إليها من مخططات صناعية وعمرانية شملت المدن القائمة وتصورت إقامة تجمعات سكانية جديدة .
فمن كان ذلك الشاب الذي ظلت تبدو عليه صفات الرجولة المبكرة ، ولا يفتأ يبدي تحمسه وتطلعه لبناء مستقبل مضيئ لوطنه ومزدهر لأبنائه ؟.
إنه ولي عهد المملكة المغربية الذي سرعان ما تحمل الأعباء على عهد والده وهيأه القدر ليتحمل ابتداء من منتصف سنة ١٩٩٩ مسؤولية الملك ، بعد أن أختار الله لجواره أباه جلالة الحسن الثاني طيب الله ثراه . وهكذا وجد الملك محمد السادس نفسه مطوقا بمواصلة قيادة البلاد وبنفس جديد وعزم وطيد بصفته الملك الثاني والعشرين في الدولة العلوية الشريفة التي يرجع تأسيسها إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي ، وبالضبط سنة ١٦٤٠ م
والآن وبعد مرور ثلاثة وعشرين سنةعلى ممارسة الحكم وقيادة البلاد ، يمكن لنا أن نصف عهد الملك محمد السادس بعهد البناء والتشييد ، كما وصفنا عهد محمد الخامس بعهد الجهاد والتحرير وعهد الحسن الثاني بعهد استرجاع الإقليم الصحراوية الجنوبية .
والحقيقة أن ما تحقق على عهد الملك محمد السادس من مشاريع البناء والتشييد تجاوز كثيرا من التخمينات المتداولة ، وتم بناء على نظرة مستقبلية وتخطيط مسبق . لقد أدرك جلالته أن من أسباب تأخر المغرب عدم إعطاء الأهمية اللازمة لتخومه على البحر الأبيض المتوسط ، فاتجه بعمله وجهده للنهوض بشمال المملكة ، فتحقق ما يعجز القلم عن وصفه
. فمن كان في مطلع هذا القرن يتصور أن بلادنا ستتوفر على أحد أكبرموانئ العالم وأهمها في حوض المتوسط ؟
ومن كان يتوقع أن تصبح طنجة وفي ظرف قياسي على ما هي عليه الآن لتحتل المرتبة الثانية صناعيا وأكثر المدن عمرانا ؟.
لن أتحدث هنا عن المكانة الدولية التي أصبحت للمغرب اقتصاديا وسياسيا وديبلوماسيا ، انطلاقا من أروبا وإفريقيا وإلى آسيا ، بعد أن أثمرت الزيارات الملكية لمختلف الدول الشقيقة والصديقة تحالفات ووفرت فرص الانفتاح على العالم للاستفادة من المنجزات والإمكانيات التي يوفرها التعاون مع الدول في مختلف الميادين .
إن ما وراء تصور المخططات والمشاريع وترجمتها الى الواقع المعاش لاستثمارها ، يوجد من كان الإيمان عدته والإرادة سلاحه .واذا ما اجتمع الإيمان والإرادة لدى الانسان يمكن أن يحقق ما يشبه المعجزة . وهذا ما شهدناه على عهد جلالة الملك محمد السادس خلال العقدين الماضيين من القرن الواحد والعشرين ، وهذا ما بث وقوى فينا الاطمئنان على مستقبل المغرب .