شاءت الأقدار أن تكون شرارة الانتفاضات العربية من تونس الخضراء، سمي بالربيع العربي وأطاح بالعديد من الديكتاتوريات، لكنه في نفس الوقت أدخل العديد من البلدان دائرة الشك. فبعد قرابة العقد من الزمن، ها هي اليمن وليبيا وسوريا والعراق تعيش حالة من الفوضى العارمة، وها هي تونس مهد الشرارة تدخل نفقا مظلما بعد سنوات من الأخذ والرد السياسي وانتخابات، اعتبرت في حينها من الأنظف في تاريخ تونس الحديث.
إلا أن تونس ومنذ تولي قيس السعيد زمام الحكم بتونس، عرفت العديد من الأحداث والمنعرجات آخرها الاستفتاء على الدستور الجديد. فقبل سنة من الآن تصاعد التوتر في البلاد بعد إقالة الرئيس لرئيس الوزراء هشام المشيشي وعلق عمل البرلمان، وهي الخطوة التي اعتبرت انقلابا خطيرا على المسلسل الديمقراطي بتونس.
وبموجب الصلاحيات الدستورية، التي يقول الرئيس انه يتمتع بها، فرض العديد من الإجراءات الأمنية في البلاد بعد الاحتجاجات العارمة التي شهذتها تونس بعد إقالة الحكومة، وهي احتجاجات شعبية أدت إلى انقسام الشارع التونسي بين مؤيد ومعارض لها. هذه الإجراءات التي أدت كما يقول ريكاردو فابيان، الخبير في شؤون شمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية: “أدت إلى خلق أسوأ أزمة سياسية في تونس منذ ثورة 2011”. كما اعتبر محللون أن خطوات الرئيس غير مفهومة في المرحلة الحالية وهو نفس الاتجاه الذي يذهب إليه ريكاردو فابيان بقوله: “لا أحد يعلم إلى أين تتجه الأوضاع وخطوات الرئيس تبدو وكأنها قفزة في المجهول”.
فهل يمكن أن نقول أن قيس السعيد أجهض على آمال كبيرة في بناء الديمقراطية بتونس؟ أم يحاول قدر الإمكان قطع الطريق نهائيا على النهضة وأتباعها؟ كلها تساؤلات تؤرق الشارع التونسي اليوم، وخصوصا وأنها اعتبرت من البلدان القليلة التي عاشت الانتفاضات لكنها تجنبت الدخول في حروب وصراعات عنيفة، وهذا ما يحسب للشعب التونسي.
وقبل أيام جرى استفتاء حول الدستور الجديد، الذي قال عنه محللون أنه لن يطوي بشكل نهائي ملف الصراعات السياسية والخلاف القائم بين الرئيس والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. نسبة التصويت لم تتجاوز نسبة 27 بالمائة، من بين تسعة ملايين تونسي تحق له المشاركة، وهي نسبة قليلة جدا، فالنتائج توضح أن ثلثي التونسيين لم يصوتوا على الدستور، مما يفتح باب الخلاف على مصراعيه بين الرئيس ومعارضيه، وربما يدخل تونس نفقا مظلما وأزمة سياسية تلوح في الأفق.
فالدستور سيتم اعتماده، خصوصا وأن المواد المنظمة للاستفتاء لا تتضمن مرسوما يشير إلى الحد الأدنى للمشاركة، لذا سيتم اعتماد نتائج الاستفتاء المعلنة، الأمر الذي ستعارضه الغالبية خصوصا بعد أن قام قيس السعيد بتركيز جميع السلطات بيده، الخطوة التي اعتبرها المحللون قفزة نحو الهاوية وإجهاض البناء الديمقراطي بالبلاد.
من الطبيعي جدا أن تعيش تونس هذا المخاض السياسي العسير بعد صراعات سياسية كثيرة، يجب أن تكون مثمرة للتجربة التونسية وأن تستفيد منها لبلورة مشروع مستقبلي، وأن لا تكون الخطوات الحالية هي إعادة إنتاج سياسات، قاومها التونسيون لعقود كثيرة، ولن تزيد الطين إلا بلّة.
فتونس اليوم، وبعد عقد من الانتقال السياسي، لم تشهد أي جديد يذكر، فالاقتصاد التونسي منهار كما المشهد السياسي كما الوضع الاجتماعي المتأزم، فالبلاد تدخل كل مرة في خلافات سياسية كبيرة ومتتالية، لا تخرج منها إلا بالدخول في أزمة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية جديدة.