بقلم: ابراهيم صاميد**
إن المتتبع لوضع التعليم العالي بالمغرب، يخلص إلى أن الضعف والترهل بدأ يتسلل إلى مختلف بنياته منذ مدة طويلة، سواء تعلق الامر بنسبة ونوعية الاكتساب والتعلم لدى شرائح واسعة من الطلاب أو قدرة وجاهزية الهيئات التدبيرية لهذا القطاع الحيوي على القيام بواجبها.
فقد أصبحت فضاءات الجامعات أشبه بهياكل ميتة، لا تلفظ سوى سقط المتاع وثقافة الابتذال وتعزيز صفوف العاطلين، جراء سوء تدبير تلك المؤسسات البحثية، وتسيد الفساد والمحسوبية بها وغياب ثقافة الابتكار والمقاربات الإبداعية من أجل تطوير تلك البنيات للإسهام في بناء البلد في تناغم مع السياسات الحكومية، لملاءمة التكوينات مع الفرص المتوفرة بسوق الشغل، ونجاعة العملية التعليمية وجودتها.
بيد أننا قد نجازف بالقول إن الأمر مرتبط بخلل بنيوي على المستوى الوطني، يغطي كافة المؤسسات الجامعية في أول وهلة، إلا أن الملاحظ أن هناك تفاوت كبير بحسب الإمكانيات والقرب من المركز والنفاذ الى صناع القرار.
فحسب ما رشح من معلومات حول تدبير جامعة عاصمة المملكة، يرجح القناعة بأن حصيلة رئيسها تتعارض في كليتها مع أهداف وغايات الحكومة المغربية في مجال تجويد التعليم العالي وجعله أداة دبلوماسية فعالة للتعريف بالمغرب وقضاياه على المستوى الدولي.
ففي إطار تفعيل اتفاقية تعاون وشراكة دولية بين جامعة محمد الخامس وجامعة الدراسات الدولية ببكين، حول تأسيس معهد كونفوشيوس النموذجي بالمغرب، وهي الخطوة التي صنفت كثمرة لحراك دبلوماسي مغربي قوي يهدف إلى تنويع فرص التعاون الدولي، في سياق عالمي متقلب، تروج أخبار في الأوساط الجامعية حول إقدام رئيس جامعة محمد الخامس على رفض تثبيت لوحة للمعهد باللغة العربية والصينية جلبها الصينيون معهم، دون سند يذكر.
وهو تصرف كاد أن يسهم في خلق أزمة دبلوماسية بين المغرب وجمهورية الصين الشعبية بسبب سوء تقدير مسؤول حسب نفس المصادر، لأن هذا المسؤول لم يستوعب بعد أبعاد وتبعات تصرفه، لولا دخول جهات عليا بعد تنبيه السلطات الصينية على خط الأزمة مبكرا.
إن هذا القصور في فهم أدوار ومسؤوليات القائمين على المؤسسات الجامعية بالمغرب، أسس لأزمة صامتة بين وزير التعليم العالي ورئيس جامعة محمد الخامس، لاحت أولى تمظهراتها في غياب الوزير عن حفل تدشين معهد كونفوشيوس النموذجي، المتوج لشراكة استراتيجية بين المملكة المغربية وجمهورية الصين الشعبية، والتي يمتد أثرها لثلاث جامعات أخرى بالقنيطرة وأكادير وفاس، وسجل غيابه كذلك عن حفل التميز المقام بالرباط، في حين حظر لاحتفاليتين بجامعات فاس.
ويسجل العديد من الفاعلين في مجال التعليم العالي، حدوث انتهاكات صارخة أو توافقات بين جهات في مستويات مختلفة من المسؤولية لإجهاض حق الضحايا والرأي العام في معرفة حقيقة ما يقع داخل أسوار الجامعات.
إذ لا يختلف اثنان أن ما خلفته فضيحة الجنس مقابل النقط بجامعة سطات من أثر سلبي على نفسية المغاربة وفقدان الثقة في المؤسسات الجامعية التي أصبحت مرتعا لمختلف السلوكيات الفاسدة المنتشرة في غفلة من مسؤولينا وتصالح مع كل ما يخدش حياء وقيم ومعتقدات المغاربة.
وبالرغم من اتخاذ تدابير عقابية ضد الأساتذة المخالفين في علاقة بجريمة الجنس مقابل النقط، إلا أنها تبقى قاصرة عن بلوغ إصلاح جذري للاختلالات التي تشوب قطاع التعليم العالي، لأن الجرأة المبالغ فيها لإرغام الطالبات على فعل سلوكيات مشينة وإجبارهن على ممارسة الجنس لضمان حصولهن على النقط في الاختبارات، أمر يبعث على الخجل من المنظومة التعليمية برمتها، اعتبارا الى أنه كان يفترض ان يضرب زلزال مدمر تلك البنية المهترئة، لإضعاف تكالبها ونهشها لصورة الوطن مقابل تلبية نزوات حقيرة، أبطأت تصنيف المملكة المغربية أكثر من مرة على سلم جودة التعليم العالي وفعالية خدماته ومكانة منتسبيه ومرتفقيه.
غير بعيد عن سيناريو الجنس مقابل النقط بسطات، تفجرت فضيحة بالمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بوجدة، حول انتشار محادثة تكشف تحرش أستاذ بطالبة، تفاعلت رئاسة جامعة محمد الأول بخصوصها بالبدء في إحداث لجنة للاستماع وتقديم المساعدة والمواكبة القضائية وتسخير خط أخضر للإبلاغ ووضع بريد الكتروني رهن إشارة الطالبات لتلقي شكاياتهم وتظلماتهم.
ويظهر تواتر حالات الابتزاز الجنسي للطالبات، أن استفحال الظاهرة مرتبط أساسا بإحجام القطاع الوصي عن تبني إجراءات صارمة ضد مرتكبي التحرش الجنسي والمسؤولين عنهم، وأن أغلبية الحالات وقعت في ظرف استثنائي، كان من المفروض أن يتعبأ كل المغاربة لتوخي اليقظة والوقاية في سياق انتشار وباء كورونا المستجد، فضعاف النفوس غالبا ما يصطادون في المياه العكرة.
رصد حالات التحرش الجنسي بالفضاء الجامعي، يشير الى ان الطابع الممنهج للظاهرة سابق لحالة الإغلاق بفعل الجائحة، حيث اهتزت مدينة الرباط على وقع فضيحة مدوية، تتلخص فصولها في إقدام أستاذ جامعي بكلية علوم التربية التابعة لجامعة محمد الخامس على التحرش بطالبة ودعوتها لممارسة الجنس معه، وقد راسل والدها رئيس الجامعة ووزير التعليم العالي حينها، إلا أن خوفه على ابنته وطمعه في تحقيق العدالة من قبل المسؤولين ظل دون استجابة، بل ولم تأخذ رئاسة الجامعة القضية مأخذ الجد وكأن الأستاذ دعاها لاداء فريضة الصلاة، وفي سلوك يتنافى تماما مع متوجبات المسؤولية، تمت لململة القضية لحماية المنتهك ورؤسائه من المساءلة.
غير أن أكثر حوادث الفساد غرابة، ما وقع في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، من فساد في تدبير بعض تكوينات الماستر، خصوصا ماستر المؤسسة السجنية :الوقاية وإعادة الإدماج، حيث أجبر المشرفون على التكوين الطلبة بإرسال بحوثهم عبر البريد الالكتروني، دون تسليم نسخ ورقية، لمنسق سلك الماستر دون الأساتذة المشرفين، قصد تمكينهم من مناقشة بحوثهم والحصول على شواهد التخرج، فتمت مباشرة عملية مناقشة بحوث بعض الطلبة، وإغفال البعض، لتبدأ الأسئلة تتناثر في رحاب الكلية ، بكيفية التواصل مع الطلبة في ظل الإجراءات الاحترازية، وكيف يتم استدعاء طلبة دون اخرين، وما السر وراء إغفال البعض منهم، وهي أسئلة سرعت من تفاعل مشرفي الماستر المذكور لوأد أي تناول للفضيحة خارج أسوار الكلية، وتم منح الحالة المعنية دبلوم الماستر دون برمجة أو مناقشة أو تقديم أي وثيقة بحثية تثبت استكمالها لدروس الماستر، أو حتى استشارة الأستاذ المشرف خوفا من الفضيحة.
وقد بلغ الى مسامع الكثيرين حسبما يروج داخل أوساط الطلبة المترشحين لهذا الماستر، أن التسجيل في تكوين الماستر المذكور، يتم بسلاسة عند دفع مبالغ نقدية تتراوح بين 15000 درهم و30000 درهم كرشوة لتوفير عناء التحضير لاختبار اجتياز مباراة الولوج للتكوين المشار إليه أعلاه.
ويقودنا التسليم بامتداد حالة الترهل التدبيري إلى باقي مكونات جامعة محمد الخامس، سواء تعلق الأمر بالهيئات المسيرة أو في علاقة بتدبير ملفات تكوينات وأسلاك الماستر والدكتوراه، يروج في الكواليس، برمجة وتنظيم لجان مناقشة لأطروحات دكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، والتي لا تعدو كونها عملية نسخ لأوراق بحثية ودراسات او رسائل سبق نشرها، واعتمدت من قبل المشرفين على المؤسسة، على الرغم من تعالي أصوات للتنديد بفداحة الجرم المرتكب في حق سمعة وتاريخ الكلية.
المبكي في الامر أن وضع تلك اللجان العلمية، يتم عبر فبركة وإدخال أسماء لأساتذة لا تتوفر فيهم الكفايات العلمية والبحثية ولا التخصص أو اللغة في مجال الاطروحات المراد مناقشتها، بغية تهيئ الملف العلمي لمحميي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، لاجتياز مباراة الولوج الى درجة أستاذ التعليم العالي، لمحاباتهم ومكافأتهم على دعمه والوقوف إلى جانبه في حروبه اللاأخلاقية مع طيف واسع من الأساتذة الشرفاء الذين لم يرضخوا لنزواته وشطحاته التدبيرية العمياء.
لا تقتصر الأساليب الملتوية في تيسير مناقشات زبونية لطلبة محسوبين على لوبي عميد كلية الآداب بالرباط فقط، أو تسريعها للبعض وفرملتها أو تعطيلها للبعض الاخر، بل يتجاوز الامر أحيانا هذا المستوى، إلى الإقدام على منع الطلبة من حقهم في التسجيل في سلك الدكتوراه، رغم تفوقهم دون تعليل، سوى التعطش لقتل روح المبادرة والابتكار في تدبير صرح علمي، كان له الفضل في تكوين نخب المغرب وعلمائه منذ التأسيس.
وقد سجلت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط رقما قياسيا في انتهاك كل الأعراف والقوانين الناظمة للتعليم العالي بالمغرب، فكانت مسرحا خلال الثلاث سنوات الماضية للتنكيل بالأساتذة الباحثين والتحريض ضدهم والنبش في اعراضهم وشن حملات وصم وتشويه ضدهم لتحييدهم عن قضايا التعليم العالي الضاغطة ومصالح تلك الفئة، ويطالب العشرات منهم بتعويضات عن دروس ملقاة في مختلف تكوينات الماستر التي يشرف عليها من تعرضوا لتسلط العميد ومساعديه.
وبالرغم مما أثير حول إدارة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالعاصمة من شبهات فساد أخلاقي وتدبيري، إلا أن الملاحظ أن جهة ترعى هؤلاء الفاسدين وتحميهم من أية رقابة أو متابعة، فكلما أقدم المشرفون على المؤسسة على ارتكاب مخالفات ضارة إلا وتقوت رغبتهم في توسيع رقعة الانتهاكات وتنوعها دون خوف وفي واضحة النهار، واخر ما جادت به فرادتهم في التفكير والتخطيط، الإشراف على عملية إدماج شخصين كأستاذين مساعدين بمسلك اللغة البرتغالية، لم تتعدى دراستهما لتلك اللغة الثلاث سنوات بسلك الدكتوراه، على الرغم من تواجد عدد كبير من دكاترة اللغة البرتغالية الذين راكموا تجارب طويلة في التدريس والبحث العلمي، وما زالوا يئنون تحت وطأة البطالة.
إن استمرار مسلسل الفضائح والأخطاء القاتلة بين ظهران جامعة محمد الخامس، يفيد بعبثية التدبير وعدم اكتراث رئيسها لما يقع في محيطة المليء بالعفن، وغياب الإرادة في الإصلاح ومواجهة المفسدين، بل حمايتهم في بعض السياقات، والاستعانة بأشخاص لا يحوزون صفة تنظيمية داخل فريق الإشراف على تدبير الجامعة، حيث كثر الحديث عن وجود أستاذ جامعي بكلية سلا، يمتلك صلاحيات خارقة وعلاقات اخطبوطية تمكنه من التأثير في سير العديد من القضايا التي تكون الكلية والجامعة طرفا فيها، لا سيما ما تعلق بالدعاوى المرفوعة ضدها أو في وجه أحد أذرعها، ويقوم هذا السوبرمان بكل ذلك دون توفره على صفة أو تفويض مكتوب من رئيس الجامعة للقيام بتلك المهمات القذرة، مما يشرع الباب أمام تراكم الشكوك بشأن دور الرئيس وعلاقته بأشخاص خارج محيط التكليفات القانونية الذي أشرف عليها بنفسه، ويعزز فكرة عدم اكتراثه لحجم المسؤولية التي يتحملها تحت غطاء وحماية الوزير أمزازي وتحديه لرئيس الحكومة السابق والدفع به بنائبه السابق لجلب منافع والحفاظ على امتيازات وتوطين صداقات بعد انتهاء مأموريتها بالولاية الانتدابية السابقة للسيد الوزير، الشيء الذي تسبب في تجميد هياكل الجامعة وميزانيتها لما يقارب السنة.
واستنادا الى ذلك، يحكى أن الوزير السابق كان يعمد الى اختيار ووضع لجان تعيين على المقاس لإدخال أصدقاءه الى مناصب المسؤولية كما حدث مع رئيس جامعة محمد الخامس، وكذا عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إذ سنَّ سُنة سيئة، تتلخص في اختيار الرؤساء والعمداء، على أساس الولاء الشخصي وليس وفقا لمشاريع ورؤى لتطوير المؤسسات المراد الإشراف عليها.
إن هذا الاستهتار والتدمير الممنهج للجامعة المغربية، في مخالفة صريحة لتوجيهات جلالة الملك محمد السادس برباط المسؤولية بالمحاسبة وضرورة انتاج تعليم ذا جودة، ووجوب الحرص على كرامة وحقوق المغاربة، لا يمكن أن يتم إيقافه إلا إذا عالجنا مسبباته المرتبطة أساسا بإسناد مناصب المسؤولية الى أشخاص يفتقرون تماما لقيم المواطنة والتفاني في خدمة الصالح العام، وينشدون خدمة حساباتهم البنكية ونزواتهم الشخصية فقط.
وهي سانحة ندعو من خلالها وزير التعليم العالي الى أن يلجأ إلى إعمال مقتضيات القانون بحذافيرها ويعلي من قيمة الأساتذة الجامعيين، ويضرب بيد من حديد على أيدي المخالفين والمرتكبين لأفعال التحرش الجنسي والرشوة وسوء التدبير، ويعمل على تحريك ملفات الفساد التي تم تجميدها في المدة الانتدابية للمفتش العام السابق للوزارة بتعليمات من الوزير المنتهية ولايته، بالإضافة إلى الاتجاه نحو تجديد النخب في علاقة بالإشراف على مختلف مناصب المسؤولية بالجامعات والكليات والمدارس العليا وبالوزارة الوصية، لجعل المغرب مشتلا لتكافؤ الفرص، والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات ويحرص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، لأن من شأن تنفيذ سياسات عمياء في قطاع التعليم العالي، كما هو الحال بجامعة محمد الخامس وكلية الآداب وكلية علوم التربية بالرباط وكلية الحقوق بسلا، أن يرهن مستقبل أجيال بكاملها في علاقة بحقها في التعلم والعمل والعيش الكريم، ويضعف صورة المغرب أمام المنتظم الدولي.
**باحث في قضايا التعليم العالي–الرباط