نعيش في عالم بدون معالم حقيقية، عالم غابت عنه أوجه الحياة الحقيقية العادلة، تاه الإنسان بين أزقة الخراب والظلم والفساد. كان على حق كرامشي حين قال: العالم القديم انتهى، والعالم الجديد تأخر في الظهور وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش. فهل سيبزغ الفجر قريبا أم سيطول الظلام، وتتناسل الوحوش بكثرة في عالم يزداد بؤسا يوما بعد يوم؟
كل الذين تستهويهم السياسة أو تغريهم الانتخابات أو يقلقهم الواقع أو يحملون هموم الوطن، أو حتى أولئك الذين لا يهمهم ما يقع، الكل مطالب بأن يطرح، من وقت لآخر، أسئلة عديدة وعميقة عن الانتخابات والسياسة والسياسيين والواقع المعاش والمجتمع الذي نحلم جميعا ببنائه.
فنحن لا نتغير مع الزمن، بل ننضج ونحاول فهم الواقع أكثر، وتحليل أفضل لمجريات الأحداث، لتظهر المواقف والحقائق على حقيقتها وكما هي، لأننا يجب أن نكون قد استوعبنا الواقع كما يجب. فهي خلاصة سنين من التجارب التي يجب أن تستخلص بالشكل الأفضل، وإلا نكون، بصدد الدوران في فلك مغلق وفارغ.
لماذا كل هذه الفوضى والمزايدات التي تمس جوهر مبادئ احترام الآخر وتقبل الفكر المخالف، كما تمس أيضا ثقافة الخلاف بين كل القوى السياسية والحوار الفكري الجاد، لأن السياسة بصفة عامة أو الانتخابات بصفة خاصة يجب أن تتخللها قيم العمل النزيه والالتزام بالأخلاق وشرف الممارسة، وخوض النقاش الجاد وصراع الأفكار والمقترحات بشكل حضاري، كله في إطار تساوي الحقوق والفرص.
من الطبيعي أن نطرح جل هذه الأسئلة وفي هذه الظرفية بالذات، لأنها فترة استثنائية بكل المقايسس، واستثنائية لعدة اعتبارات محليا ودوليا، وهي تستحق تفكير عميق ودقيق، أكثر من إجابات بسيطة ولغة خشب مستهلكة ومتداولة، والتي يتم تقديمها في أغلب الأحيان بشكل متكرر ولعقود عديدة. لا أستطيع أن ألوم هؤلاء، الذين يكررون هذا الكلام الجديد القديم، بالأمس كما اليوم، ولا يملون منه، بل أجد أن من يتحمل المسؤولية أولئك الذين يسمعونه لمدة طويلة، دون العمل على النضال، من أجل تغيير المعطيات والواقع المعاش.
لا أشعر بالارتياح أمام الوجوه التي أراها اليوم تتقدم المشهد السياسي، وهي نفس الوجوه التي تعاقبت على مراكز القرار لمدة طويلة، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن طبيعة الفكر الانتخابي لدى المواطن وهو ما يتطلب بحوثا سوسيولوجية تفكك هذا اللغز المحير.
ولا عجب أن نجد العديد من هذه الوجوه تردد دون حياء برامج سياسية لا علاقة لها بالواقع، بل نظريات سطحية، أو مناضلين يرددون شعارات إيديولوجية ماتت مع الحرب الباردة، ولم تعد تنفع في شيء. فمن يتحمل المسؤولية، هل السياسي أم من أوصله لتمثيله؟ هنا يجب أن نفكر جيدا في أصواتنا ومستقبلنا.
لقد تطلب الأمر عقودا من الممارسة السياسية، فهل حان الوقت لنرى تمثيليات مشرفة، وأطر غيورة على الوطن وتسعى لخدمته، وتحقيق العدالة المجالية والاجتماعية. فبرامج الأحزاب لم تتغير كثيرا، لكن نظرتنا يجب أن تتغير للسياسة وممارسة الفعل السياسي، لأن البرامج السياسية اليوم، لا تغير حقائق الواقع إلا إذا تغيرت رؤيتنا نحن للواقع الانتخابي.
لهذا السبب، لا أرى جدوى من محاسبة الأحزاب السياسية والنخب السياسية واتهامهم بالفساد، بقدر ما يجب أن نحاسب أنفسنا وأصواتنا إذا كنا نسعى فعلا لخلق مجتمع واع بشروط نجاح انتخابات يخلدها التاريخ وتجيب عن كل التساؤلات التي تؤرقنا.