شاعر الإنسانية في ذكراه..محمود درويش
هناك جوانب كثيرة استثنائية في حياة الكاتب والشاعر، في تجربته الحياتية الإبداعية، فهو مدافع عن قضية مجتمعية ما، أو مناضل من أجل قضية وطنية أو قضية امة بأكملها. أحيانا نختزل تجربة كاتب ما أو شاعر ما في صراعه السياسي، الذي لا مجال لان يتفاداه أي مناضل فكري في مسيرته الإبداعية، فالشاعر أو الكاتب هو ذاك الذي يستطيع، أن يعطي لكلماته بعدا إنسانيا متجاوزا البعد الجغرافي، ليدون في صفحات التاريخ الإنساني.
كثيرون هم من رفعوا قلم التعبير عن قضايا بلدانهم، ومشاكل مجتمعاتهم، وآمنوا بصدق قضايا أوطانهم، فالكلمة المعبرة تجعلنا نتساءل عن العمق الإنساني الذي تحمله، فأشعار لوركا وبابلو نيرودا مثلا تمنحك دفئ ومشاعر تفيض بالتضامن البشري وتعطي للنص قيمة جمالية فياضة. ومحمود درويش واحد من الشعراء العرب الذين كانت أشعارهم تحمل بعدا إنسانيا كبيرا تجاوز القضية الفلسطينية والصراع من أجل الأرض ومناهضة الاحتلال.
واحد من عمالقة الشعر العربي، شاعر الأرض، شاعر القضية، شاعر الثورة وشاعر الإنسانية، مسيرة نصف قرن من العطاء، إضافة إلى الالتزام السياسي اليومي كانت أشعاره ذات بعد إنساني كوني. إنه الشاعر محمود درويش (1941 – غشت 2008) ابن ساحل عكا، غادر فلسطين وهو ابن السابعة كالعديد من الأسر الفلسطينية إلى لبنان، لكن عائلته عادت بعد سنة إثر اتفاقية الهدنة الموقعة.
بعد إنهاء دراسته الثانوية انظم للحزب الشيوعي الإسرائيلي وعمل بصحيفته التي أصبح مشرفا على تحريرها فيما بعد، واشترك في تحرير جريدة الفجر. ومنذ اعتقاله من طرف السلطات الإسرائيلية سنة 1961 بسبب نشاطه السياسي وتصريحاته، غادر فلسطين متوجها إلى الإتحاد السوفياتي لإكمال دراسته، ثم لاجئا بالقاهرة وهناك انظم لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم لبنان حيث عمل في مؤسسة النشر والدراسات التابعة للمنظمة، أسس أيضا مجلة الكرمل الثقافية. استقال محمود درويش، من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو التي احتج عليها لم يكن موافقا عليها.
فشعر درويش يمكن اعتباره تجربة حياة، حياة اللجوء وحياة الهروب إلى العودة التي لا نرى بوادرها بعد، حياة المعاناة، فحين يقول محمود درويش في قصيدته “كُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكننا لا نعودُ إلى أي بيتٍ” كلمات تعبر عن المنفى واللجوء ومأساة الفلسطيني المهجر قسرا والتائه في أرجاء الكون.
شعر محمود درويش كان ترجمة للواقع المعاش، ليس في فلسطين فحسب بل بالمنطقة العربية، كان يحمل الكثير من المعاناة، العديد من الرسائل التي تصف هذا المجتمع المتصدع من الداخل والخارج، صراع الأرض والهوية والدين والشخصية العربية. وصف الشاعر مشاعر الناس، وهم في طريقهم للمجهول، وكل قصيدة كتبها درويش كانت تبحث عن مكان آخر للجوء، والبحث عن محطات للاستراحة من تعب الحياة.
هكذا تكلم محمود درويش “وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيرك”، مخاطبا الإنسانية بعد تعب شديد، ومحنة لن يفهمها إلا اللاجئ الهارب من ماضي التاريخ والباحث عن العودة للماضي الجغرافي، أي العودة للأرض والأصل، إلى الجليل وساحل عكا. يتحدث في أشعاره دوما عن السفر، وهو سفر في الزمن حاملا معه ما تبقى من الوطن ومفتاح البيت الذي هدّم وبقايا صور للعائلة والمكان، إحساس عميق جسده درويش كما يجب في كلماته.
رغم المعاناة وبؤس الواقع الفلسطيني، لم يكن متشائما، بل كان يحمل بذور الأمل دوما في جيوبه، التقيته قبل وفاته بأربع سنوات في حفل ثقافي بفرنسا رفقة صديقه مارسيل خليفة، كان الأمل لا يفارقه وهو الذي قال إن لم يوجد الأمل فلعينا اختراعه، فحتى قوة الحزن إذا عبرنا عليها بإبداع نخلق منها أملا، وهو أمل القدرة البشرية على الإبداع. كان شاعر الثورة كما كان غسان كنفاني كاتب الثورة، عاشا على حلم العودة يوما إلى الديار، إلا أن الأقدار أجلت حلمها وغادرا مبكرا.
فقد عايش محمود درويش التحولات الكبيرة بمفهوم الشاعر الملتزم، لما لا وهو يستحضر كل لحظة قضايا مصيرية كاغتراب في الهوية، وانفعال داخل مأزق الانتماء، النسيان والتمدد في مكان متخيل، والبعد عن عشق المكان، أي المكان وظروف تشكل الذاكرة والحاضر.
فرغم ألم المنفى والحمل الثقيل الذي يحمله من هموم الواقع الفلسطيني سواء بالداخل أو فلسطينيي الشتات، ظل يحلم بأن رغم طول الطريق إلا أنها ستنتهي يوما:
“سأقْطعُ هذا الطَّريق الطويل، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخِرهْ. … تضِيقُ بِنَا الأرضُ أَو لا تضِيقُ. سنقطعُ هذا الطَّريقَ الطَويلْ”.