الواقع العربي…وأسئلة الممكن
الواقع العربي المعاصر ليس بحاجة لحركات تذكره بضرورة نسيان الماضي والتراث للعيش في الحاضر والعمل على بناء المستقبل، لأنها تريد الإنسلاخ من جلدها وارتداء ثوب غير مخصص لها. كما انه ليس بحاجة أيضا لحركات منغلقة تجعل كل كوارث ومصائب الأمة على عاتق الغرب، فانكفأت بطريقة غير مبررة عقلياً ومنطقيا إلى الماضي، للبحث عن الحلول الجاهزة.
كل الحركات الإيديولوجية في العالم العربي قامت على ردود الفعل أكثر مما هي حركات فاعلة وذات رؤية شمولية للمجتمع والواقع العربي المعاصر، لأن المشكلة تتمثل في كيفية تحديد مستقبلنا بشكل يتسق مع منطق حاضرنا وماضينا وإيجاد ذاك الخيط الرفيع الذي يجمع بينهما. فالحاضر المزري ليس بحاجة لمن يذكره بضرورة الانفتاح على الحضارات الأخرى والتفاعل معها أو الحنين إلى الماضي.
فالمشكلة في رأيي لم تعد تصاغ بعبارات هل نتفاعل أم لا، المشكلة الحقيقية –وهي صلب الحقيقة- تكمن في شروط هذا التفاعل وتكمن أيضا في منطلقاته الفكرية ومدى تحكمنا بهذه الشروط، وأخيرا في مدى اتفاقنا حول تلك المنطلقات.
فمن طبيعة الفهم الإنساني ولمصلحته أيضا، أن يقيم تمييزا حقيقيا بين واقع الأشياء وإمكانها، وأن فكرة الإمكان لا توجد إلا في عالم الإنسان العاقل والواعي بواقعه، فهي غير موجودة في عالم الغرائز والحواس وردود الأفعال. فالممكن مرافق للإنسان الذي يستعمل حواسه وغرائزه من جهة وخياله وعقله من جهة أخرى، وأحيانا يدفعه عقله إلى حيث المطلق.
لكن فكرة الممكن هذه لا تتحقق إلا انطلاقا مما تقدمه التجربة، حيث أعلى واجبات المعرفة هي الحقائق المحصل عليها واقعيا، ولا شيء غير الحقائق. والنظرية التي لا تؤسس على الحقائق التي تثبتها التجربة إنما هي سحابة عائمة في الفضاء. إن حقائق العلم تشمل دائما عنصرا نظريا، بل إن كثيرا من الحقائق العلمية المهمة والتي غيرت أحيانا مجرى التاريخ، إنما كانت حقائق افتراضية، قبل أن تصبح حقائق واقعية ملموسة. كما أن الفرضية وهي عنصر مهم في مناهج العلوم هي احتمال ممكن، وتفسير مؤقت، يقدمه الباحث، ويضعه على محك التجربة. فالتجربة إذن هي قبول أو رفض إمكانية معينة من التفسير.
فحضور الممكن ضروري لتقدم المعرفة الإنسانية، والبحث في تحقيق شروط العقل العلمي، والبحث في ما وراء الواقع. وما يميز الفكر النظري، وهذا ما امتاز به كبار المفكرون والعلماء والمصلحون أنهم لم يكونوا يفكرون من خلال الواقع فحسب بل وسعوا حدود الواقع واستعلوا عليه، واستشرفوا بشفافية عبقرية معالم الممكن.
هؤلاء المفكرون يتمتعون إلى جانب قدرات عقلية وأخلاقية بخيال واسع ذا طاقة تخيلية باهرة، وكل النظريات الأخلاقية التي صنعت مجد الإنسانية تخيلها واضعوها بنفس الطريقة والأسلوب. فهم لم يتعاملوا مع الواقع على أنه واقع، بل تعاملوا معه كما يجب أن يكون، أو بصيغة أخرى كما يمكن أن يكون.
وفكرة التعالي عن العالم المعطى أي عن الواقع.. واستشراف آفاق الممكن أثبتت قوتها ونجاعتها وأهميتها في تطور الإنسانية على مدى العصور. وفي التاريخ المعاصر نجد مثلا أن كارل ماركس و أنجلز في البيان الشيوعي أو رأس المال لماركس، وسواه من الأعمال الفكرية، إنما كتب وبشر بمجتمع لم يكن واقعاً، بل على العكس تماماً كان نقيضاً للمجتمع الذي عاشا فيه.
إن من صميم الفكر الأخلاقي ومن طابعه أيضا أنه لا يتنازل أبداً ليقبل بالمعطى وبما هو موجود، فالعالم الأخلاقي ليس عالماً معطى، جاهزاً، وإنما هو في التكوّن، وقيد الانجاز دوما. يرى كوته أن: العيش في العالم المثالي، معناه أن تعامل المستحيل وكأنه ممكن.
فكبار العلماء والمفكرين عبر التاريخ تعاملوا مع المستحيل على أنه ممكن. وكلمة مستحيل ليس مستحيلا دائما، بل بمعنى المستحيل وجوده الآن، وليس المستحيل لذاته، وإلا أصبح نوعا من ضياع الوقت والجنون.
الفكر العربي المعاصر بحاجة لإفساح المجال للممكن، وعليه مقاومة التسليم السلبي للواقع الراهن. لأنه السبيل الوحيد لتجاوز الواقع المتأزم والتغلب على القصور الذاتي لدى الإنسان، ويمنح الإنسان العربي قدرة جديدة، وطاقة حيوية تساعده على أن يعيد تشكيل المجتمع العربي من جديد ويعمل على تطويره على الدوام.
فالممكن في مجال الفكر عموما ليس صورة شمسية لما يمكن أن يحدث في المستقبل، أو صورة محددة الأبعاد بكل التفاصيل الجزئية. إنه ببساطة تطلع إلى تشكيل هذا المستقبل، ورؤية لنموذج آخر وفق منهج ممكن، ورؤية أيضا تحمل مبررات وأسباب التحقق. بحيث يكون هذا المنهج وهذه الرؤية سبيلا على طريق التقدم الإنساني.. ومن واجب الإنسان العربي أن يتجاوز الواقع المعطى له، إذا أراد أن يغير هذا الواقع بما يتناسب مع طموحاته وتطلعات مجتمعه.
كما أن البحث في مفهوم الممكن ليس بنظرية مثالية سفسطائية بل الهدف منه تقديم الأساس الفكري، والرؤية المعرفية لوضع مشروع عربي إنساني لإيجاد حلول لمشاكلنا الراهنة، وتقديم نظرة ممكنة للإشكالات المتشابكة التي نواجهها يوميا وإعادة صياغة مفاهيم جديدة لوجودنا وحاضرنا ومستقبلنا وعلاقاتنا بالآخر والحضارات الأخرى.
نحن بحاجة إلى محاولة قراءة المستقبل في ضوء المعطيات المتاحة وأيضا في ضوء قدرتنا على فرض التغيير الممكن، فالطاقات والإمكانات الفكرية العربية قادرة على استشراف المستقبل، والاستعداد للتكيف معه وقادرة أيضا على اقتراح الممكنات التي تناسب مجتمعاتنا وهويتنا وثقافتنا. إذ نحن بحاجة إلى استقراء واقعنا بدقة وتمحيص من أجل تشخيص الأسباب التي أدت بنا إلى قعر البئر وأنتجت الأزمات المتتالية، كل ذلك من أجل إنتاج مشروع عربي حقيقي يستعيد المبادرة ويتطلع لغد مشرق.
وطبيعة وإمكانية تحقيق هذا المشروع الإنساني من أهم التحديات التي يواجهها الباحثون و الفكر العربي المعاصر عموما، إذا ما أردنا العمل على تغيير واقعنا نحو الأفضل والإستفادة من القدرات والإمكانات المتاحة وخلق روح جديدة وباب أمل وتطلع للإنسان العربي.
آن الأوان للعمل على تحقيق نهضة عربية معاصرة بمقومات ورؤى ونظريات جديدة تتماشى والواقع الاجتماعي والثقافي الكوني، وتحقق تطلعات المجتمع العربي التواق للانعتاق من البؤس الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والحالم أيضا بتغيير يقود مجتمعنا العربي إلى مصاف الحضارات المتقدمة، بعيدا عن الخراب والمزايدات السياسية والعقائدية والإيديولوجية والأفكار العشائرية والقبلية التي قسمت الصف العربي ومزقت وحدته لعقود من الزمن.
إنه الممكن وليس المستحيل، فقط العزيمة والإرادة… ولكل زمان رجاله.