النكبة العربية المعاصرة: ماذا ينتظر المجتمع من مثقفيه؟ (ج2)
كما أن الفوضى التي يعيشها العالم العربي المعاصر أفرزت عدة مواقف منها الإيجابية والسلبية للمثقف العربي، وإجمالا لم ترقى إلى دوره الطليعي الذي من المفروض أن يلعبه في خضم الصراع والتحولات الحاصلة. فقد غلب الغموض المفرط في وجهات النظر للقضية، والقضية في شقيها الإنساني والوطني تكتسب شرعيتها من نضال وإيمان وموضوعية المثقف.
في زمن الخراب الذي نعيشه في البلاد العربية يغيب المثقف أو يتم تغييبه عن الإهتمام بالقضية وينحصر دوره في الموقع الهامشي منها، وحتى إن واكب الأحداث أحيانا فهي مواكبة غير فاعلة وغير مؤثرة. والقليلون فقط من يحاولون رفض التخلي عن دورهم في رسم معالم مجتمع ما بعد الفوضى أو الإسهام في وضع حجر الزوايا لإيجاد حل للمشاكل التي يتخبط فيها المجتمع العربي على كل الأصعدة.
ومن الملاحظ حتى في زمن الحرب والفوضى، يدير المثقف العربي ظهره إلى الكثير من الأحداث والوقائع الإجتماعية والدينية والسياسية والثقافية والتي تتغير وبطريقة سريعة ورهيبة داخل المجتمع العربي ويهتم بشواغل أدبية وفكرية مجردة لا تستطيع إحداث التغيير أو المساهمة فيه.
كما أن تصنيف الناس إلى مثقف وغير مثقف فيه إجحاف للعامة، فالمثقف بالمعنى التخصصي يغلب الجانب الثقافي والفكري على نشاطاته. إلا أن جميع الناس مطالبين بالإنخراط في المشروع الثقافي للمجتمع دون استثناء، حتى لا يتم تهميش دور المثقف والثقافة على حد سواء.
وفي خضم التناقضات السياسية والصراعات الحاصلة داخل المجتمع العربي، غلب الجانب السياسي على كل المجالات الأخرى ومنها الثقافة، وأحيانا يتم تغييبها واستثناؤها من كل المشاريع السياسية. لذا من الضروري وجود موقع خاص للثقافة يسمح لها وللمثقف أيضا بأداء دورها الفعال والموضوعي، فسواء تقاطعت مع السياسة أو تعارضت معها فهي مطالبة بدورها الحيادي لتستطيع ممارسة عملها التحليلي والنقدي لكل مجريات الأحداث المجتمعية الراهنة.
التغيرات تتسارع بالمنطقة العربية وكل شيء ينذر بالكارثة والقوى السياسية لا زالت تتخبط في إرثها القديم المتعفن والساعي دوما إلى مراكز الحكم والسلطة والتسلط دون أي اهتمام وتقييم للوضع الإجتماعي والثقافي للمجتمع العربي وتطلعاته.
فالقوى السياسية عموما، في الوطن العربي، تطالب دوما بالتغيير إلا أن برامجها تخلو من أي برنامج ثقافي. في حين يبدو مشروع التغيير الإجتماعي ذو طابع شمولي أوسع بكثير من أن يتضمنه مشروع هته القوى المغيبة لعنصر الثقافة في عملية التغيير التي تطالب بها.
من هذا المنطلق يبرز دور المثقف في عملية التغيير وكذا الضغط على القوى السياسية لتفعيل دور الثقافة في إحداث التغيير المنشود وهو الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف وإلا سيجد نفسه منضما للقوى السياسية ويصبح مدافعا عن مشاريعها كيفما كانت، وبذلك يغادر صفوف الجماهير إلى صفوف القوى الحاكمة ويصير بوقا لها.
فالمثقف مطالب بتحديد العلاقة التي تربطه بالسلطة وكذا المؤسسات الإعلامية والسياسية، كما أنه مطالب أيضا بتحديد علاقته بالشعب والجمهور، وإلا يصبح هامشا إزاء حركة الحياة والجمهور وغريبا عن الثقافة الشعبية وفي ذلك موت للروابط الثقافية بين المثقف والعامة.
كما أنه مطالب دوما بتحقيق التلاقي بين الثقافة وجمهورها من أجل تحقيق إدماج الجمهور في الفعل الثقافي ويصبح جزءا مشاركا في مشروع التغيير. كما أن حالة الإستبداد السياسي وانسداد الأفق في الكثير من البلاد العربية يدفع الكثير إلى التساؤل عن الحاضر والمصير –خصوصا شبابها- دون أن يجد إجابات مقنعة.
هنا يبرز دور المثقف الحقيقي لإيجاد الأجوبة اللازمة والضرورية للإقناع. وهي نخبة دافعت ولا زالت تدافع عن حقوق الشعوب العربية في الحرية والعدالة الإجتماعية والكرامة، وهي تقوم بذلك ليس فقط إيمانا منها بمبادئها والتزامها الأخلاقي اتجاه المجتمع، ولكن أيضا لأنها مطالبة بإيجاد أجوبة للوصول إلى طريق الخلاص من الوضع البائس الذي تعيشه البلاد العربية.
كما تجد النخبة المثقفة نفسها مطالبة أيضا بالإجابة عن استمرار هذا الوضع، ولماذا تعايش عدد كبير من المثقفين مع السلطة ودافعوا ولا يزالون عن استبدادها ولا يخجلون من الجهر بولائهم ودعمهم للنخب الحاكمة والتنظير لها وتبرير عنفها وتحميل الشعوب مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في المجتمع العربي.
إنها نخبة من المثقفين الدجالين المهووسين بالسلطة والمال والشهرة وهم سبب ديمومة الحلقة الفارغة من الإستبداد السياسي والتخلف الثقافي، لأنها ببساطة ترى في الحرية والعدالة الإجتماعية تهديدا كبيرا لمواقعها ومراكزها ومكتسباتها وأيضا لوجودها ذاته.
فمن هو المثقف الضروري للمرحلة الراهنة؟