تذهب نخبة العلمانيين الى حد المطالبة بالقطيعة مع الماضي من اجل بناء مجتمع حداثي، و يرون أن بناء مجتمعات حديثة لن يتأتى إلا بفصل الدين عن الدولة، ان لم نقل انهم يطالبون بتغييب الدين عن الحياة العامة وإنشاء مجتمعات لا دينية، فقد خلفت الافكار التقدمية في دول ما بعد الاستعمار جدالا بين نخبة المفكرين العرب الداعين الى دمقرطة المجتمعات العربية الحديثة الاستقلال، مرتكزين على النماذج الغربية ذات المرجعيات العلمانية. وبهذا المبدأ سوقت النخبة، العلمانية كعقيدة تحل محل العقيدة الدينية وكأنها الضامن الوحيد للحرية الفكرية للفرد.
النخبة العلمانية اتخذتها كإيديولوجية لتمييز ذاتها عن باقي فئات المجتمع، وحولوها الى هوية وعقيدة قائمة بذاتها، إلا أنها خسرت الصراع الإيديولوجي السائد في الأقطار العربية. فالعلمانية في معناها الحقيقي هي أن الدولة كمؤسسة لا يمكن ان تميز بين مواطنيها حسب انتماءاتهم العقائدية، وهي في الان نفسه لا تعادي اي عقيدة دينية ولا حتى لا دينية.
يمثل تيار العلمانيين نخبة من الفركفونيين بدول المغرب الكبير وجماعة من انصار الفكر الغربي بالمشرق العربي. شيدوا لأنفسهم ابراجا بعيدة عن واقع باقي مكونات المجتمع وسعوا الى جعل انفسهم من منشدي الحرية والإنعتاق. وحتى في خندقهم وصل الخلاف حتى كسر العظم.
كانت المسالة فقط رمي الاخر بأي سلاح يقع في اليد، وجرى تصوير ما يحدث من جدال وسجال على انه تناحر وضاعت الحقيقة ومنطق الاشياء. فاستبدل قانون التحاور والجدال الى تناحر تطرفي لا ينتظر منه إلا التشتت وتفويت فرص بناء حقيقية على الأمة.
تصادمت التيارات، فانزوى المحافظون الى زوايا ضيقة واحتضنوا الماضي وانتظروا عودة العصور الذهبية والأزمنة المجيدة وبدا البكاء على الأطلال، وأغلقوا النوافذ جيدا حتى لا تصلهم نسائم الخارج. في حين هرول العلمانيون المقلدون إلى معانقة الغرب عشقا بحضارته سابقين الواقع العربي بمسافات ضوئية.
وحيث يكون التقليد تكون الرتابة، فشتان ما بين المبدع والمقلد.
اخطا المحافظون الذين فضلوا الركود والانزواء والعيش مع الماضي وتمسكوا به ليخرجوا من الحاضر ولم يتطلعوا الى المستقبل. في حين طار العلمانيون الى المستقبل متناسين الماضي وزاد الازمنة الغابرة فكانت الثمار هواء. وصح القائل: لكي نقفز الى الامام عليك الرجوع خطوتين الى الوراء.
فالعلمانيون يحاربون الدين باسم محاربة التخلف والجهل، وليس اي دين وإنما الدين الاسلامي. فهو في نظرهم سبب تخلف الشعوب العربية وانحدارها. وان الاسلام والعقلانية لا يتماشيان وان الاسلام والديمقراطية لا يمكن ان يلتقيا ابدا. فالعلمانية بالنسبة لهم هي الدين العقلاني الذي يجب ان يسود بدل الاديان السماوية لبناء دول ديمقراطية حديثة.
تراجع بعضهم عن الافكار التي سادت عقدي السبعينيات والثمانينيات وبدا وكأن العلمانيون ينشدون أنشودة بدون كلمات. تاهوا في زمن لم تعد الايديولوجيات الماضية تنفع في شيء، اعترف بعضهم أن الإسلام هو الحل كما ذهب الى ذلك محمد عابد الجابري، وان الشعوب العربية مهما حصل تبقى الهوية الدينية احد مكونات وجودها. في نضالهم ضد التطرف الديني والدين عامة سقط العلمانيون في فخ التعصب وإقصاء الاخر الى حد عدم الاعتراف به. وبدلك دفعهم تطرفهم الى الغاء الدين كمعادلة في عملية بناء الدولة وتحولوا من علمانيين الى ملحدين أو لا دينيين. كما دفعهم ايمانهم القوي بالأنظمة الغربية ونماذجها الى اعتبار العلمانية المحور