نلاحظ في اتجاهات العصر الحديث يزداد اهتمام الشعوب والمجتمعات بتراثها وأصالتها وهي تسعى من خلال مفهوم التنمية لأن تحترم شخصيتها الثقافية، وهذا الاهتمام نابع من الحاجة الأساسية لأي فرد أو جماعة وهي الحاجة إلى تأكيد الذات على مستوى الفرد، وتأكيد الهوية القومية على المستوى الجماعي وذلك من خلال التواصل مع إرث الأمة المادي والفكري. وهذا ما نجده بوضوح في سعي المجتمعات الحديثة الاستقلال للبحث عن جذورها الثقافية كي لا تكون هويتها منقوصة.
ويشكل التمايز الثقافي عقبة في وجه مشاريع الهيمنة والاستعلاء التي يمارسها المشروع الثقافي الغربي عامة، وخاصة النموذج الأمريكي فهو مجتمع بلا جذور يقوم على ذريعة لا تميز في مجال القيم بين الجوانب الروحية و الجوانب المادية، فهو مجتمع يتنكر للتمايز الثقافي وينطلق من منطلق يتمثل في اعتقاده بتفوقه وذكائه على الثقافات والمجتمعات الأخرى.
إن التمايز الثقافي من حيث أنه يستند إلى عمليات نفسية و اجتماعية هو دليل نمو واتجاه بالصعاب نحو النضج، وكلما كان التمايز واضحا فإنه يعبر عن مستوى أفضل في قدرة الفرد أو الجماعة على تنمية الجوانب الانفعالية وأنواع السلوك الدفاعي. مما يمكن الفرد أو الجماعة من التميز عن الآخر وينمي قدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسية لشخصيته في علاقاتها المختلفة.
يعبر الكثير من الباحثين عن سخطهم على كل النماذج التي تسعى إلى صوغ الأفراد لديها وفق قوالب محددة مما يترتب عليه من إضعاف القدرة على الإبداع والتعبير، وكذا تضييق الخناق على حرية الإختلاف والتنوع الثقافي.
اعتبر النموذج الغربي المثل الأسمى الذي انخدع فيه الفكر العربي والذي اعتبر الأمل في التخلص من التخلف الذي سببته سنين من الإنحطاط والتقهقر. وقد وصل الانبهار بالنموذج الثقافي الذي ساد الغرب من تمجيد العقل والعلم حتى أصبح البعض صنمين، وأصبح هم الباحث أن يكثر من استخدام مفاهيم العلمية والعقلانية ، ولم يكن في معظم الأحيان سوى اهتمام بالشكل على حساب المحتوى وقفز فوق الواقع.
لا يخفى على أحد أن غالبية المثقفين العرب متحزبون أو متعصبون لهذا المذهب أو ذاك، بل إن الباحث يمكنه أن يجدف بمجداف جديد كل يوم حسب أهوائه وحسب الرياح العاتية. العديد من الباحثين والمفكرين لا يثيرون القضايا العربية الراهنة بهدف تحليلها أو معالجتها بطريقة موضوعية وعلمية أو إلقاء ضوء جديد عليها، وإنما تعد محاولاتهم للبحث في الواقع عما تنطبق عليه بعض النظريات المأخوذة من النماذج المستوردة لتطبيقها.
ويعد الإنبهار بالنموذج الإشتراكي أحد النظريات التي لاقت رواجا كبيرا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والتي عمل البعض على قطع بعض الأفكار والتصورات وفصلها عن نظريات هذا النموذج. فنجد في ثنايا هذا العمل الفكري العربي المعاصر تعبيرات معاصرة يضفيها المفكر على أنظمة أو حركات أو حراك اجتماعي متغير في الزمان والمكان.
لقد ساد الفكر العربي المعاصر نظريات وفلسفات متنوعة رصفت رصفاَ دون النظر إلى أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وظروفنا وتاريخنا ومقوماتنا الثقافية وواقعنا الديني، دون الأخذ بالإعتبار رأسمالنا الثقافي والرمزي للأمة. وكثر استعمال مصطلحات ومفاهيم ذات صفة تقريرية مسبقة وتجاوز بها البعض إلى ألفاظ تقويمية مفروضة يتم بموجبها تصنيف الناس بين حداثي ورجعي ويميني ويساري…
ولعل أخطر ما أصاب العقلانية العربية هو الحالة من عدم التوازن التي خلفها سقوط المعسكر الاشتراكي وما تبعها من حالات التداعي والانهيار وإعلان التبعية للإمبريالية الأمريكية والتعويل عليها واعتبارها النموذج الأقوى و المخلص الأوحد رغم انتهاكها لحقوق الإنسان في العديد من بقاع العالم.