وكأن ظاهرة الإتكال أصبحت مرضا مزمنا أصبنا به قصدا أومن غير قصد، فنحن نطلب العون دائماَ من الخارج ونعول على حلولنا من الغرب سياسيا واقتصاديا، وكأن مفاتيح مشاكلنا في أيدي الآخر. ولم ندرك بعد أن أوراق اللعبة ليست لا في يد روسيا ولا في يد الغرب بل في أيدينا نحن الذين لا زلنا نتعامل كمحميات مستضعفة.
فالبحث عن حال الذات خارج نموذجنا وواقعنا أدى بالعديد من المثقفين العرب عامة إلى الاستهانة بخصوصيات الذات والتقليل من قيمتها، والإنجراف وراء الدعايات الكاذبة لأنماط مستوردة وتابعة ، مما أدى إلى السقوط المدوي والتخلف اللامحدود وانتشار مفاهيم التنظيم الموجود مسبقا الذي يستند إلى تطور سطحي وتنمية فارغة من مضمونها الإنساني مكرسا جل أنواع التبعية والتخلف.
وكم كان حرياَ بنا وضروريا أن نستعين بالنماذج الشرقية والغربية ليس بوصفها نماذج جاهزة حين نطبقها نتقدم وحين لا نطبقها نقبع ضمن الدول المتخلفة، بل كمنظور وسياق تاريخي يتيح لنا فهم التجربة التاريخية لبلدان سبقتنا في مسار التنمية والتقدم الحضاري والعلمي والتكنولوجي.
هذا المنظور الذي يتيح لنا استشفاف معالم ومكونات النماذج الأخرى لنخرج بمنهج تحليلي نسلطه كالضوء ليكشف عورات واقعنا العربي المعاصر ونقط قوة وضعف مسارنا التاريخي ، ونحاول من خلاله دراسة العوامل والإشكاليات والمسائل التي ما زالت تخيم على فكرنا العربي وتجعل عالمنا العربي رهين التخلف والفوضى الخلاقة.
فالمرحلة الحالية من الفكر العربي يجب أن تتجاوز بعض السجالات العقيمة والحلول المسبقة والبحث مليا في الحلول التي تأخذ بعين الإعتبار واقعنا المعيشي اليومي وليس الإيمان بنظريات ونماذج غربية وشرقية لم تساعد مجتمعاتنا العربية في شيء بل كرست مفهوم التبعية والخضوع للآخر لعقود خلت ولم نجني منها إلا الدمار والخراب.
إلى جانب انقسامات الطبقة المثقفة وابتعادها عن الواقع أحيانا، يشكل المثقفون خليطاَ غير متجانس، إن من حيث محتوى الثقافة أو من حيث تفاعلهم مع الثقافات المطروحة. هناك أيضا القطيعة التشاركية بين المؤسسات الفكرية و الثقافية سواء داخل البلد الواحد أو بين مختلف البلاد العربية، علاقات شبه مقطوعة لا تتعدى البروتوكولات الإدارية واجتماعات ترفيهية لا تصل مستوى التأثير والفاعلية في الفرد والمجتمع.
قطاع التعليم لم يصل بعد للمستوى المطلوب على المستوى التثقيفي والتنظير العلمي الهادف لتطوير وبناء المجتمع، وعلاقته بالمجتمع لا تتعدى كونها علاقة توظيف وإيجاد عمل وأحيانا إعادة إنتاج نفس الطبقة في الزمان والمكان، ولم تصل بعد لمستوى التحفيز على الإبداع والإنتاج، والدفع بالمجتمع إلى الأمام والعمل على تطويره.
العمل الثقافي العربي لا يزال فعلاَ فرديا َإلى حد كبير، والعمل الثقافي هو ذاك الفعل الذي يعمل على تحليل البنيات الاجتماعية ودراسة أسباب تخلفها وأدوات إنتاج تبعيتها، للوصول إلى معرفة الأسباب وكذا الخروج من الوضع المتردي إلى الفعل الفكري والإسهام في التنمية المجتمعية. إلا أن التعاون اللازم بين مراكز البحث العلمي في العالم العربي ما يزال في أدنى درجات التعاون المرجوة، ناهيك عن تعذر القيام بأبحاث ودراسات تتناول بعض المواضيع الهامة من حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية بسبب الطابوهات أو الخوف من السلطات.
كل ما ذكرته لا يمثل الجو الملائم الذي يمكنه أن يثمر دراسات قيمة أو يساهم في عملية البناء والنمو، هذه الظروف لا تسمح أيضا ببروز مثقفين حقيقيين متحررين من الخوف والقيود. الشيء الذي يؤخر عملية البناء الفكري والتنظيري الذي يساهم في تنوير المجتمع ويساعده على بناء عمليتة التنموية من الداخل وبشكل سليم.
كما أن الساحة الثقافية العربية المعاصرة غالبا ما تكون ثقافة موجهة إلى نخب معزولة عن العامة المتروكة لعفويتها وواقعها المهمش، رغم توفر وسائل اتصال حديثة وسريعة إلا أن المثقف العربي لم يستطع التأثير على مسار الحراك الاجتماعي والتأثير في ثقافة الجماهير وتغييرها والعمل على تأطيرها. لكن الملاحظ أن أغلب الكتابات والدراسات لا يتابعها إلا كتاب آخرون وكأن المثقفون يكتبون لبعضهم البعض دون الوصول إلى القاعدة الجماهيرية وهي الفئة المستهدفة بالبحث والتحليل في الأساس، وهو ما يجعل الهوة بين النخبة والقاعدة في اتساع مستمر وكل في واد.