خبراء..ثقافة التفاهة عنوان الشعبوية السياسية وسفسطة الإعلام وغطرسة المال
نظم “الحدث الإفريقي” بتعاون مع المنظمة الدولية للثقافة ندوة فكرية تحت عنوان “ثقافة التفاهة ودور الإعلام في صناعتها” التي شارك فيها كل من الدكتور حاجي دوران رئيس قسم علم الاجتماع من جامعة أيدين باسطنبول، والدكتورة دوللي الصراف أستاذة علم الاجتماع بالجامعة اللبنانية، والدكتور عبدالكريم الوزان، عميد كلية الإعلام بجامعة مينيسوتا الامريكية، والناقدة والشاعرة والكاتبة التونسية ابتسام عبدالرحمان الخميري، وقدمها الكاتب الصحافي عبدالله العبادي.
الندوة كانت فرصة لطرح أسئلة شائكة على خبراء إعلاميين و علماء اجتماع و مفكرين، لمقاربتها بطريقة علمية أكاديمية، لنقاش حيثيات هذا الموضوع المهم، الذي أصبح يشكل خطرا كبيرا على المشهد الثقافي الكوني، وعلى مستقبل الأجيال القادمة في عالم غريب الأطوار.
فنحن نعيش في عالم جد مضطرب، لا نعرف هل هو على أبواب تحول كبير، أم اضطراب بلا ضوابط. نحن إزاء عالم فيه وفرة في المعرفة، ونقص في الحكمة، اختراعات تكنولوجية خارقة، وعجز في العيش بسلام مع نفسه. فهو عصر الخوف والمخاطر، وثقافة الاستهلاك، والفرجة والاستعراض، والأفكار الرخوة.
توحّشت فيه الليبرالية العالمية، وزادت من اضطراباته أزمات متعاقبة، وابتذال النخب، السياسية والثقافية والاقتصادية، وسياسات عرجاء، لا مبادئ لها، بعضها ممزوج بالخرافة والجهل، وأخرى تساير البلاهة والابتذال.
في كتابه نظام التفاهة يتحدث ألان دونو، الفيلسوف الكندي، عن «موت السياسة» أو تفريغها من المعايير الحاكمة لها، والخالية من أي مضمون، وطالبنا بأن «لا نأخذ العالم على محمل الجد»، خاصة حينما يسيطر التافهون من أصحاب الفكر الضحل على مواقع مؤثرة في المجتمع، فيغيب الإبداع والنقد، وتُهمَّش منظومات القيم، وتنحدر قيم العمل، وتُنتهك كرامة الإنسان وحريته.
انه حالنا اليوم، تسيّدت ثقافة التفاهة المشهد العام، فضاعت مفاهيم المواطنة المتكافئة، واختفى النقاش العام، وعلت الرداءة وصارت اللعبة اسمها النجاح السهل السريع.
موجع حين نسمع إن التعليم سيكون وفق حاجات سوق العمل، يعني أن التعليم هو علامة تجارية، لا تُنتِج مفكرين ولا باحثين، ولا بحوثاً ، وإنما ترّبي فردا قابلاً ل «التعليب» في المستقبل، أي ماكينات، بدون فكر نقدي أو شغف معرفي، ولا يهمه التمييز بين الوهم من الحقيقة.
ففي ظل ثقافة التفاهة تتولد ذات قلقة غير قادرة على إدراك الواقع، ولا تفرق ولا تميز، ومستعدة لتقبل أي خطاب، بعد أن فقدت حس الاختلاف كما يقول المفكر عبدالسلام بنعبد العالي. كما تنشأ في ظل هذه الثقافة هوية حائرة متأثرة بالعوالم الافتراضية، في الزمن الرقمي، وبالتحولات الثقافية والاجتماعية التي أوجدتها.
وحين تصبح الحياة مجرد «سوق استهلاكية مجنونة» يصبح الشأن العام، في نظر القاعدة العريضة من المولعين بثقافة التفاهة، مجرد تقنية إدارة، لا منظومة قيم ومفاهيم عليا وحقوق وواجبات وضمير إنساني.
تفرز هذه الثقافة قاعدة عريضة من التافهين ممن تستهويهم «الشعبوية السياسية»، وسفسطة وسائل الإعلام، وغطرسة المال، التي تحاول إقناعنا بأنها فكر وثقافة واستشراف.
ثم تتطور، أي ثقافة التفاهة، لتصبح نظاماً متكاملاً، ويحدثنا التاريخ عن حاكم صقلية، حينما باع فيلسوف أثينا أفلاطون إلى تاجر رقيق، عقاباً له، بسبب دعوته للعدل والفضيلة، كما يحدثنا عن سُلطاتٍ حرقت الكتب. إنهم يعززون الإحباط والخوف عند الناس، ويشيعون البلاهة بدلاً من التركيز والعقلانية وإنضاج وعي الناس.
في ظل التفاهة، تتحول الثقافة إلى سلعة، ويتسيَّد الذوق الرديء، ويرتفع منسوب هَوَس الحصول على الشهرة، ويصبح النموذج أو القدوة هو نجم الغناء، ونجم الرياضة، ونجوم التنشيط التلفزي.
خلقت ثقافة التفاهة آليات للفرجة، وصناعة الرموز تجاوزوت مساءل الجودة والأخلاق، وهي آليات تتضافر فيها وسائل إعلامية، وشبكات مصالح، ووسائط إعلانية.
وقد نجحت فعلا، رموز هذه الثقافة التافهة في الانتشار والتأثير خارج حدودها الأصلية بفعل قوة الإعلام وسطوته، وتم تكريس كل شيء تافه من غناء ساقط وأكل غير صحي ولباس بلا ذوق.
في حين تم التقليل من شأن المثقف، والعقل النقدي البناء، وإعلاء شأن الخبير المُلمِّع، الذي يجاري السوق ويتقن ما يريد أن يسمعه المتلقي، ليبيع بضاعته باسم الثقافة.