يتناول المغاربة الحديث هذه الأيام عن العلاقات مع فرنسا بحدر شديد، مترقبين ماذا سيحدث من تطورات، خاصة بعد الزيارة التي خص بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” النظام الجزائري أياما قليلة بعد الخطاب الملكي الذي أعلن فيه الملك محمد السادس أن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر منها المغرب إلى العالم، مشيرا في الوقت ذاته إلى أنه يتعين على دول تربطها بالمغرب علاقات إستراتيجية وتعد ضمن الحلفاء المهمين أن تحدد موقفها بصراحة من قضية الوحدة الترابية للمغرب على غرار ما فعلت الولايات المتحدة وألمانيا واسبانيا.
أجمع المراقبون على أن المقصود من كلام الملك محمد السادس هي فرنسا، وطبعا إلى جانبها دول أخرى لها مصلحة في تعزيز علاقاتها مع المغرب.
لكن زيارة ماكرون إلى الجزائر وبالتزامن مع استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي الملقب بابن بطوش، يعتبر رسالة من فرنسا بأنها غير معنية بالدعوة المغربية وان لها موقفها من نزاع الصحراء ولا تريد تغييره تحت أي ظروف.
لمن يريد أن يعرف موقف فرنسا من قضية الصحراء المغربية، فهي المستفيد رقم 1 من هذا النزاع المفتعل أكثر من إسبانيا ومن أي طرف آخر، وذلك بسبب تعميق مصالحها في الطرفين الرئيسيين لنزاع الصحراء وهما المغرب والجزائر.
تستفيد فرنسا من خيرات كلا البلدين وترتبط مع كل منهما باتفاقيات منذ إعلان استقلالهما عنها (المغرب 1956 – الجزائر 1962). وتعمل فرنسا جاهدة على إبقاء حالة التوتر بين البلدين الجارين لأطول فترة ممكنة، وهي من أطلقت على المعبر البري الوحيد بينهما اسم “زوج بغال”، الذي كلما فتح ضعف نفوذ فرنسا وكلما غلق تقوى نفوذها. فهي تستفيد من الوضع المتأزم بين البلدين وتنعش اتفاقياتها للتجارة والتسلح وتأمين مشاريع مفتوحة لشركاتها.
طبعا يختلف كلا النظامين في التعامل مع السياسة الفرنسية، ولكل طرف منهما وجهات نظر وأدوات مختلفة في إدارة العلاقات مع باريس.
بالنسبة للمغرب يعد النظام الملكي الشاهد على العصر قبل احتلال فرنسا للمنطقة وبعدها، وهذا وضع يمنحه خاصية لا يتوفر عليها النظام الجزائري، الذي يعتبر حديث الولادة بعد انسحاب فرنسا من الجزائر، حتى أن البعض يؤكد أن ولادته تمت في قاعة عمليات فرنسية وأن عناصر تابعة لفرنسا دستها في المؤسستين العسكرية والسياسية لاستدامة وجودها في الجزائر.
ينتقد المعارضون الجزائريون هذا الوضع ويصفون أركان النظام الجزائري “بكابرانات فرنسا” ينفذون أوامرها بدقة وبإخلاص. ومن ضمن ذلك تطبيقهم لقاعدة العداء الدائم مع المغرب، الذي لا يخدم الجزائر في أي شيء، بل يكلفها الكثير من أموال الشعب الجزائري وثرواته.
ترك للنظام الجزائري الموالي لفرنسا هامشا للعب على حبل الاستقلالية ضمن قاعدة “النيف”، واستعمال أشد العبارات الديبلوماسية للتظاهر بسياسة الند للند، لكن في الجوهر هناك نظام في الجزائر يطبق تعليمات الدولة العميقة في فرنسا، فهو يحمي مصالحها وهي تحمي وجوده. وهو النظام الجمهوري الوحيد في البلاد العربية وفي إفريقيا لم يتغير منذ نشأته، عسكري في جوهره بواجهة سياسية مزيفة.
بالنسبة للمغرب، كما سبقت الإشارة يقوده نظام ملكي شاهد على العصر قبل فترة الاحتلال وبعده، عرف إلى حد كبير كيف يدير العلاقات مع باريس ويظل محافظا على جزء من مصالحها ومتحفظا عليه في الوقت نفسه. فهو لم يقطع شعرة معاوية مع باريس، وكلما أضافت هي مصلحة لها في كفة المغرب أضاف المغرب في الكفة الأخرى مصلحة شريك استراتيجي آخر، حتى انتهى به الأمر إلى الوضع الذي هو الآن عليه يتوفر على مجموعة من الشركاء الدوليين الكبار.
في لحظة مفاجئة أحست فرنسا بأن حصتها من الأسهم في المغرب تقلصت، وليس بسبب أن المغرب انتزع منها نشاطا اقتصاديا معينا، ولكن بسبب أنه رفع سقف رأسماله بضم شركاء آخرين، وبالتالي لم تعد لها تلك الأهمية.
في الجانب السياسي قرر المغرب منذ “غزوة الفتح” في الكركرات في 13 نونبر 2020، القطع مع سياسة احترام موقف الدول التي توجد في منطقة رمادية بشأن قضية وحدته الترابية. ودخل مرحلة جديدة بأسلوب جديد في التعامل مع الدول في إطار معادلة القدم الاقتصادية بالقدم السياسية في موقف واضح يدعم مغربية الصحراء مقابل علاقات اقتصادية طبيعية.
أحست فرنسا بأن الخطاب موجه إليها منذ أن اخضع المغرب كلا ألمانيا وإسبانيا إلى هذا المنطق، وظل الساسة في باريس يترقبون الرسالة المباشرة من المغرب ليردوا عليها بطريقتهم.
كانت فرنسا إلى وقت قريب تتظاهر بأنها هي من تمسك القلم الأحمر لتصحيح مشاريع قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بقضية بالصحراء، وكانت الجزائر والبوليساريو تتهمانها بموالاة المغرب، فيما المغرب كان يعرف أن دور فرنسا هو فتح الباب وإغلاقه في مجلس الأمن وأن هناك لاعبين آخرين في هذا الملف وعلى رأسهم الولايات المتحدة وروسيا والصين فضلا عن بريطانيا والعديد من الدول التي سمت نفسها ضمن مجموعة اصدقاء الصحراء.
بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء حدث ما شبه الزلزال داخل هذه الدول فسارعت ألمانيا وإسبانيا إلى انتقاد الموقف الامريكي وراهنت على تغييره بعد تغيير الإدارة في واشنطن. لكن مسار المعركة انعطف لصالح المغرب فلم تغير واشنطن موقفها فيما برلين ومدريد غيرتا موقفهما، بل إن مجلس الأمن بدوره اقترب في قراره رقم 2602، من اعتبار الصحراء مغربية ولا يفصله عن الإعلان بذلك سوى جر الجزائر إلى المفاوضات باعتبرها طرفا حقيقيا في النزاع وليس جبهة البوليساريو.
في سياق هذه التطورات لم يعد للدور الفرنسي أي اهمية، بل إن المغرب أصبح يطالب باريس بمغادرة مجموعة “أصدقاء الصحراء” والالتحاق بمجموعة “أصدقاء المغرب”.
على المستوى الداخلي تعاني فرنسا من وضع معقد، إذ كان بإمكان الرئيس ماكرون ان يسلك الطريق نفسه الذي سلكه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويعلن دعمه لسيادة المغرب على صحراءه، لكنه اكتفى بالإعلان عن فتح فرع لحزبه في مدبنة الداخلة على غرار الاعلان الأمريكي بفتح قنصلية أمريكية في هذه المدينة الصحراوية المغربية.
يعتبر الرئيس الفرنسي ماكرون مقيد بتوجهات ومصالح الدولة العميقة في فرنسا والتي لها امتداد في النظام الجزائري، ولهذا اكتفى بمناورات سياسية جريئة ضد النظام السياسي في الجزائر ووصفه بالعجز وقال إنه رهينة بيد العسكر، بل ذهب أبعد من ذلك وصف الدولة في الجزائر بلا تاريخ، وأن فرنسا هي من صنعتها.
كل ذلك كان إيحاء بأن ماكرون قلبه مع المغرب ولكن عقله مع الجزائر، وبسبب الحرب الروسبة في أوكرانيا وعودة السيطرة الامريكية على أوروبا، وصعود اليمين المتطرف تلك أمور اضعفت الرئاسة الفرنسبة وما زادها ضعفا أن مالي الدولة الافريقية جنوب الصحراء طردت القوات الفرنسية واستبدلتها بمجموعة فاغنر الروسبة، وليس من المستبعد ان يكون للنظام الجزائري يد في هذه العملية.
تلقت باريس الضربة واعتبرتها الجرح الصغير الذي قد يتسبب في نزيف كبير، خاصة مع ارتفاع أصوات في دول إفريقية كثيرة تدعو للتخلص من التبعية إلى فرنسا، يحدث هذا في وقت يتزايد الاهتمام الأمريكي بالقارة الإفريقية لقطع الطريق على التوغل الصيني والروسي في القارة السمراء، ففي كل الاحتمالات فرنسا أو غيرها من الدول الاوروبية لم تنجح في منع بكين وموسكو من الانتشار في إفريقيا.
بالنسبة لفرنسا فهي لا تقود معركة في إفريقيا ضد روسيا أو الصين، بل هذه المرة ضد الولايات المتحدة التي تحضر للنزول بثقلها الاقتصادي في العديد من الدول ولعل المغرب هو بوابتها نحو افريقيا، وفي هذا السياق اعتبرت باريس استضافة المغرب قمة الاعمال الأمركية الأفريقية التي نظمت في مراكش في يوليوز الماضي تهديدا مباشرا لمصالحها في افريقيا، وردت عليه بتعليق منح التأشيرات للمواطنين المفاربة، فيما بررت ذلك بإجراءات مماثلة طالت الجزائر وتونس لتعلن في ما بعد إعفاء تونس التي استقبلت زعيم البوليساريو والجزائر التي فتحت ذراعيها لاستقبال ماكرون.
تقود فرنسا معركة للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ باستعمال أدوات منتهية الصلاحية وفي حرب أطرافها ثلاث دول كبرى تقاتل من أجل الربادة في العالم، وهي تحديدا روسبا والصين والولايات المتحدة.
بالنسبة للمغرب لن يكون مضطرا لخوض معركة ضد فرنسا سيترك لها الخيار بين مع من تكون، مع المغرب أم مع الجزائر، فيما هو حسم مسبقا موقعه إلى جانب من يقف، وفي مشهد غير مسبوق حافظ على تنوع شركاءه من الشرق الصين وروسيا ومن الغرب الولايات المتحدة الامريكية.
في علم السياسة إذا توفر لك التموقع الجيد بين الخصوم الكبار فالمعارك الصغرى محسومة سلفا.