تعددت النداءات واختلفت الوسائل، لكن النتيجة واحدة لحد الآن، التعنت المستمر للعقل المتجمد الذي لا يرى أكثر من خطوة قدميه. تتعدد وجوه تعطل العقل البشري فإما أن يصاب بالشلل البيولوجي أو أن يهيمن عليه التصلب الإيديولوجي حتى يصل درجة كبيرة من الحقد والكراهية، يجر مثل هذا التصلب الكثير من ويلات السخط والتذمر على الساسة والعامة، الأمر الذي تعيشه العلاقات بين دول المغرب الكبير منذ عقود.
لم تنجح سياسات التفرقة والتشرذم وخلق النزاعات والفتن منذ عقود عدة، ولم تعطي أي نتائج سوى إدامة الصراع وخلق المشاكل، كما أن كل محاولات تشتيت المنطقة لم تنجح ولم تكن في نفس الوقت درسا كافيا للجنرالات لإعادة النظر في مسلماتهم القديمة التي لم تأتي إلا بالكوارث المتكررة.
أي تعطل هذا الذي أصاب العقل البشري والذي يمنعه من رؤية الواقع والإيمان بالحقائق؟ لما يصر على العيش في الغباء، ومواصلة الترويح على النفس بمناورات مكشوفة وبليدة؟ أي ذنب ارتكبته الشعوب لتحرم من ملاقاة أحبتها وزيارة أقاربها، لا لشيء سوى لتعطل العقل الجنرالاتي عن التفكير في مستقبل الأوطان والشعوب والتفكير فقط في تصفية أحقاد ومكائد لم ولن تنجح أبدا، لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.
فإذا غاب هذا العقل والضمير عن الجنرالات وأتباعهم ودُماهم، وسياساتهم فلما يغيب عن بقية عامة الشعب؟ وإلا سنصبح كيانات منزوعة العقل تحركها النزوات والأحكام السائدة والتصورات المتاحة. أين أصحاب الضمير الحي والفقهاء الذين يدافعون عن الحق ويناصرون المظلوم، أين المثقف الذي يحمل رسالة تنوير الناس وحل مشاكلهم، أين الصحافي الذي ينير دروب الظلام والعتمة، أين نحن من كل هذا؟
أعتقد أن سوء الفهم الذي يسود، للأسف، العلاقات المغاربية ناتج عن توقف العقل عن الاشتغال بالمنطق الموضوعي والأمانة الفكرية، والرقي الأخلاقي الذي يميز الأداء الإنساني السليم والذي بفضله تبنى الأمم والحضارات. كما أن العيش بعقول مبتورة هكذا، لن يجلب إلا الويلات ولن يلاءم خير الشعوب وتطلعاتهم.
أعتقد أن الأزمة التي تعيشها العلاقات الأخوية، اليوم، وكل الالتواءات التي ابتليت بها المنطقة حين تعطل العقل والضمير عن العمل، وساد التهجم الغير المبرر لعقول لا إعلامية صغيرة موالية لعقول متعفنة انتهت صلاحيتها منذ زمن.
ينتقد يورغن هابرماس العقل الروبوتي الآلي الاستغلالي، ويناصر العقل التشاوري السليم المنفتح البناء والموضوعي. لماذا لا نفتح أفقا للحوار والتشاور، بين المثقفين والإعلاميين لتجاوز الانسداد الحاصل بقوة الحكمة والبحث عن الحلول الواقعية بعيدا عن الضبابية والصيد في الماء العكر؟
فالضمير المغاربي الحي، قادر أن يستنهض في فضيلة الحوار الأخلاقي طاقات التضامن الإنساني والتقارب الأخوي متجاوزا تعنت العقل المتجمد والقلة الخبيثة التي تصارع من أجل إبقاء الوضع كما هو عليه خدمة لمصالحها الضيقة بعيدا عن البعد الأخلاقي ونصرة الواجب بما هو واجب كما يرى كانط، بمعزل عن التبريرات الواهية البعيدة كل البعد عن النزاهة والصلاح.
إنها دعوة لكل الفاعلين في الحقل الثقافي للتصدي لخطاب الكراهية الممنهج الذي تعدى الخطوط الحمراء، وأن يتحلى رجال الإعلام بنوع من الحكمة وروح المسؤولية وفتح قنوات للحوار البناء بعيدا عن التعصب وطرح الإشكالات والبحث عن الحلول والبدائل احتراما لحسن الجوار والدم والماضي والحاضر والمستقبل المشترك.