الأنظمة السياسية بإفريقيا وأزمة بناء الدولة
البدايات الخاطئة:
تضم القارة السمراء الكثير من الثقافات والهويات والعرقيات واللغات، كما تعرضت للغزو الأوروبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتكونت معظم الدول الإفريقية الحديثة من خلال عملية الإستقلال من الاستعمار أواسط القرن الماضي.
حاولت العديد من الدول الإفريقية الحديثة الاستقلال، بناء ذاتها وإعادة بناء المجتمع من جديد بعد كل المشاكل التي خلفها الاستعمار، وتحقيق تنمية حقيقية تبعد شبح الفقر والمعاناة عن الشعوب الإفريقية. إلا أن سياسيو فترة ما بعد الاستقلال فشلوا في تحقيق النماء المنشود، وصار معظم المناطق الإفريقية مسرحا للصراع والنزاعات العرقية المسلحة والانقلابات العسكرية ومشاكل الحدود.
السياسات الخاطئة والآمال الموعودة:
فكانت السياسة هي المسبب الرئيسي لمعاناة الأفارقة، وكانت البداية الخاطئة التي أدخلت معظم البلدان الإفريقية في النفق المظلم، فبدأت المعاناة التي لم تنتهي بعد بسبب غباء الساسة وجشعهم فكانت النتيجة، سوء التسيير والتدبير والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والصراعات المسلحة والفقر والمجاعة.
فرغم اتسام المجتمعات الإفريقية بقيم التسامح والأخلاق إلا أن الساحة السياسية افتقدت للقيم والأخلاق لذلك كانت الدول الإفريقية، خصوصا دول جنوب الصحراء، في أزمة دائمة، ونجحت أنظمتها في إعادة إنتاج الأزمات وفوتت فرص كثير لبناء الدول وإعادة البناء المجتمعات المنهكة من الدمار والخراب الذي سببته السياسات الفاشلة.
فبعد قرابة الستين عاما مند استقلالها، لم تجد العديد من الدول الإفريقية بعد طريقها نحو برِّ الأمان، ولم تتخلص بعد من ماضيها الدموي والصراع العرقي، والعديد منها يعاني الفقر والهشاشة والحروب الأهلية، فهل هي أزمة ممارسة السياسة بهذه البلدان؟ أم أزمة من يدير السياسة؟
فالغالب أن الممارسة السياسية أدت إلى تفاقم العلل الاقتصادية والاجتماعية ، والسلطة السياسية هدفت دوما إلى إفقار الشعوب وتجريدهم من قوتهم وقُوتهم لتسهل السيطرة عليهم. طريقة الممارسة هذه، تجعل الشعوب غير قارة على التعامل بفاعلية مع المشاكل الحياتية، وخصوصا في ظل غياب مؤسسات قوية ونخب مثقفة واعية وإعلام هادف يمكنه أن يدافع عن قضايا المواطن والوطن، فكانت إذن الورطة الجماعية.
لكن لما طال عمر الاستبداد بالعديد من البقاع الإفريقية كل هذا الوقت، ولما اتصف الكثير من السياسيين الأفارقة بالاستبداد وأدت تجارب حكمهم إلى المزيد من القهر ونزع الصفة الإنسانية عن حكمهم، إلى غياب الوازع الأخلاقي لدى الغالبية والرغبة في إعادة بناء مجتمعات ما بعد الاستعمار بشكل مدني وحضاري والتأسيس لنظام سياسي ديمقراطي يسمح ببناء مجتمع حديث وتنمية حقيقية.
إخفاق بناء دولة ما بعد الاستقلال بإفريقيا
بعد الاستقلال، عملت النخب الإفريقية جاهدة على بناء قوتها السياسية، وكانت الأجواء مفعمة بالآمال في تطوير المجتمع الإفريقي نظرا للخيرات التي توجد بالقارة، إلا أن العكس هو الذي حصل، في حين كانت آسيا تعيش نفس الأجواء في منتصف القرن الماضي إلا أن النتيجة كانت معاكسة تماما للوضع الإفريقي. فقد حققت الدول الأسيوية وخصوصا جنوب شرق القارة، نموا اقتصاديا سريعا رغم افتقارها للثروات الطبيعية التي تزخر بها إفريقيا مثلا، إلا إنها أصبحت مثلا يحتدى به على الصعيد العالمي وخصوصا سنغافورة، هذا البلد الصغير الذي حقق نموا اقتصاديا واجتماعيا خياليا وفي ظرف خيالي أيضا.
ففي غانا مثلا في بداية الستينيات كان الدخل الفردي أعلى بكثير من نظيره الكوري الجنوبي، وانظر الفرق الشاسع الآن بين البلدين، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، الاقتصاد الكوري أقوى من نظيره الغاني بآلاف المرات. إنها لعنة السياسة والاستبداد وحب السلطة من أوصلت العديد من الدول الإفريقية إلى هذا الحال.
يرى الخبير الفرنسي ريني ديمون، أن الأنظمة السياسية في إفريقيا فشلت في تحقيق التنمية والنهضة المنشودة وهي الغاية التي مثلت استراتيجية مرحلة ما بعد الاستعمار. فقد كانت السياسات المتبعة مخيبة للآمال، ضيعت عقود من محاولة البناء رغم وجود تعددية حزبية وانتخابات إلا أنها في الكثير من الأحيان زائفة وغير حقيقية مما يجعل الكثير من هذه البلدان بعيدة كل البعد عن بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية أو القيام بإصلاحات جذرية تسقط قواعد الاستبداد والسلطة المطلقة التي خيمت لعقود كثيرة، ولم تساهم إلا في تأخر القارة وإفقار شعوبها بشكل مستمر وممنهج.